في التدقيق بحقيقة فكرة غياب أميركا عن المنطقة والمسمى من البعض إنسحاباً، يبرز الحضور الروسي كعامل فعل دولي في الإقليم. وكما يستنتج كثيرون من معنى مجريات الشهور الأخيرة حول المنطقة، فإن هناك تفاهماً أولياً بين موسكو و واشنطن يعطي روسيا صلاحية طرح صيغة جديدة لمسار التسوية الإقليمية. كما يترك لموسكو متابعة تنفيذها، فما الذي تفعله موسكو في إطار مراكمة خطوات بإتجاه تحقيق هذه التسوية ؟؟ و ما دور دول المنطقة في هذا الطرح المتنامي بإطراد ؟؟
في إطار السعي الروسي لإنضاج عوامل التسوية الإقليمية كان واضحاً إعتماد حقيقة أن الحل في سورية هو مطلق التفاعل في الوصول إلى هذه التسوية، والوصول للحل السوري لا بد من إعتماد حقائق الواقع السوري و إحترام مصالح الدول المحيطة و المؤثرة . لذلك فإن مفتاح هذا الطريق يكمن في الإعتراف بإنتصار الرئيس الأسد، وضرورة التفاوض معه إنطلاقاً من وقائع الميدان السوري التي تعطيه ميزة القدرة على الفعل . كما يستلزم طريق الحل في سورية خروج القوات المحتلة . و يبدو الطرح الروسي، المتفاهم عليه مع أميركا، يقوم على خروج القوان الأميركية مقابل خروج القوات التركية من إدلب، الأمر الذي يسمح للحكومة السورية إستعادة سيادتها على المحافظة، وإعادة تموضع القوات الحليفة لإيران بشكل يطمئن إسرائيل . كما أن الطرح الروسي يتضمن تحول الدور السوري من حليف لإيران تجاه الدول العربية . إلى عامل توازن و وسيط بين الدول العربية، خاصة الخليجية و إيران، مستثمرة إستمرار تحالفها مع إيران في إطار التسوية والإستقرار في المنطقة . و لا يغفل الطرح الروسي عن قضية الأكراد حيث ستكون اللامركزية الإدارية وستعطي الأكراد حقوقهم كجزء من المجتمع السوري و ضمن وحدة سورية و سيادة دولتها، ويمنع الإنفصال أو التقسيم .
استغل بايدن زيارة المللك عبدالله بن الحسين إلى واشنطن وإلحاحه على ضرورة تقديم المساعدة الإقتصادية للأردن، ليحمله إشارة الإستجابة الأميركية للتفكير بشكل جديد تجاه القضية السورية، بما يعني إستخدام العقوبات بشكل آخر، و بإسم مساعدة لبنان ، ثم التغاضي الأميركي عن قانون قيصرفي تمرير الغاز العربي من مصر والكهرباء الأردنية عبر سورية إلى لبنان . كما تم الرضا حول عملية الجيش العربي السوري لاستعادة السيادة على الجنوب بمساعدة و تسهيل روسي ، الأمر الذي فتح معبر نصيب بين الأردن و سورية آمناً و مجدياً، و يحقق مساعدة الأردن التي طلبها الملك من بايدن . التنسيق مع الملك الأردني لم يكن أميركياً فقط، بل سبقه تنسيق مع الروس بموازاة إتصالات مستمرة بين الملك و الأسد الأمر الذي فتح باب التسوية ولو بخطوات أولى . ثم جاءت زيارة الرئيس الأسد إلى موسكو ليقرأ فيها الرئيس بوتين معنى فوز الأسد بالإنتخابات بهذه النسبة العالية كشكل جازم لشرعية الرئيس في منصبه. و استناداً إلى ما تمليه هذه الشرعية من واجبات على الأسد فقد أعلن من الكرملين إصراره على السير بالحل السياسي وألتزامه تفعيل عمل اللجنة الدستورية ودفعها لتحقيق خطوات واضحة في الجولة القادمة، و بذلك تصبح سورية كمطلق للتفاعل السياسي على طريق التسوية الإقليمية الشاملة في حالة نشاط و فعالية في كل الاتجاهات، و هذا ما يعطي موسكو أسرار القدرة على المضي قدماً في إنجاز التسوية المطلوبة .
بوتين، الذي بدأ التفاهم مع بايدن في جنيف، نسق مع الملك الأردني الكثير من الأمورليس أولها التساهل الأميركي مع قيصر و ليس درعا و إستعادتها وفتح معبر نصيب لفعاليته آخرها. كذلك فإن روسيا تنسق مع إيران، حيث بحث لافروف مع عبدللهيان الكثير من التفاصيل السورية المطلوبة للتسوية إضافة لموضوع الإتفاق النووي . وهناك من يقول أن روسيا حصلت على ( إنحناءة إيرانية ) لتمرير التسوية . كما أن بوتين و طاقمه على تواصل مع الدول العربية خاصة الخليج و السعودية و مصر . و يبدو أن الدبلوماسية الروسية حصلت على موافقة العرب الذين طالبوا سورية بخطوات في إطار الحل السياسي و اللجنة الدستورية و هذا ما تفعله سورية إنطلاقاً من مصالحها . إضافة إلى أن هناك تناغما إسرائيلياً روسياً حول ضرورة التسوية كعامل فاعل في إطار التفاهم مع إيران حول النووي . و أخيراً جاء أردوغان إلى بوتين ، لكنه عاد و هو يردد ما يعرقل التسوية، و هذا ما يستلزم من دول المنطقة التوافق على إسلوبية للضغط على أردوغان و عدم السماح له بإستمرار زعزعته لإستقرار المنطقة، و محاسبته على تواصل دعمه للإرهاب في أدلب وغيرها، ومنعه من التدخل بأعمال اللجنة الدستورية السورية عبر عملائه والمنضوين في مشروعه .
بينما تغيب واشنطن عن المنطقة تحضر موسكو فيها، و تحقق التفاهم معها، و تراكم الخطوات لإنجاز التسوية . لكن مازال أردوغان عنصر عرقلة يعيق تقدمها و مازالت الإنحناءة الإيرانية تحتاح إلى تعزيز، و مازال العرب ينتظرون تحفيزاً أكثر . و يقول خبراء أن مبادرة من الدول العربية كالإمارات والسعودية في تجاوز بعض الإعتبارات و مد اليد بالمساعدة الإقتصادية بما ينعش الشعب السوري يعيد العرب إلى مكانتهم كأشقاء فاعلين ، و يدفع سورية أكثر و أكثر لممارسة دورها في خلق التوازن المطلوب في المنطقة بين إيران والعرب . و ربما يكون لمصر دورها في توليد الطاقة السياسية اللازمة لتحقيق كل ذلك لأن فيه ما يحشر أردوغان في زاوية ضيقة و يسقط عرقلته ويفضح سياسته المعادية للإستقرار و السلم الإقليميين.