التطرف من منظور العلوم الإنسانية
منذ العمليات الإرهابية التي ضربت باريس مرتين وبروكسيل مؤخرا والمحللون على اختلاف تخصصهم يجهدون في مقاربة ظاهرة التطرف الجهادي لفهم دوافعها، كل من جهته يحاول أن يفهم: كيف يغدو الفرد متطرفا ثم يتحول إلى إرهابيّ يقتل باسم أيديولوجيا تقوم لديه مقام التقديس؟ وما هي الظروف التي تدفعه إلى ذلك؟ هل يتأتى العنف من يقينية دينية وحدها أم من عوامل أخرى ترفدها؟ رأينا أن البعض عدّ المقاربة السوسيولوجية، عبر وسط المنشأ والعائلة والبطالة ومقر الإقامة محاولة يائسة للتبرير بدل التفسير. ولم تكن المقاربة الدينية أحسن حظا، بعد أن أجمع عديد المحللين على أن أتباع مختلف ديانات التوحيد ليسوا كتلة واحدة، ولا يتماثلون في التفكير والأفعال، ففيهم أغلبية صامتة من أناس طيبين لا تسيء حتى إلى بعوضة. فأين يكمن إذن السبب الأساس في كل تلك الأعمال الإجرامية التي تهز أعتى الديمقراطيات؟
المؤرخ البلجيكي بيير فيرمرين ينظر إلى ظهور التطرف في البلدان الغربية نظرة شاملة، ويرتد إلى تصفية الاستعمار التي شكلت نقطة فارقة في الظاهر فقط، لأن المرحلة التي تلتها لم تلبّ تطلعات الشعوب إلى الحرية والكرامة وتعميم التعليم والعمل على الجميع إضافة إلى الحقوق السياسية. ذلك أن الدول المستقلة لم تعبأ بآمال شعوبها ومارست عليها استبدادا كان من نتيجته تواصل تلك التطلعات، تحت شعارات ثورية ما فتئت تتوالد كالقومية العربية والعالم ثالثية والماركسية اللينيية والاشتراكية العربية والإسلام السياسي والسلفية والجهادية. وفي رأيه أن جميع تلك الحركات والأيديولوجيات حاولت تغيير الوضع الذي أقامته الدكتاتوريات العسكرية والأنظمة الشمولية بتواطؤ من القوى العظمى، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا اللتين وجدتا في استقبال العمالة العربية الإسلامية نوعا من التكفير عن ذنب الاستعمار، ومناسبة لتجديد نسيجها الاجتماعي، وفتحتا حضنيهما للجاليات العربية المسلمة وأرادتا أن تبدآ من الصفر، وكأن الشعوب والأفراد لا ذاكرة لها ولا ضغينة. فمنذ الأزمة الصناعية في الثمانينات وتفشي البطالة في أوساط المهاجرين، بدأ الحديث عن التفكك الأسري وانحراف أبناء المهاجرين وأخيرا تطرفهم ومرورهم إلى العنف. وفي رأيه أن تاريخ المستعمِرين والمستعمَرين ولّد ظاهرتين متناقضتين: إرسال ملايين من المهاجرين المغاربيين إلى دول أوربية لم تعد تريد أن تسمع شيئا عن مستعمراتها القديمة وتاريخها. وتغذية احتجاج إسلاموي ما فتئ ينزع إلى التطرف، شجّع عليه دعاة ظلاميون يحقدون على الغرب من جهة، ومفكرون وناشطون سياسيون وحقوقيون طوباويون من جهة ثانية، غفلوا عن وجه الإسلام السياسي وجرائره على شبيبة مهتزة الهوية.
أما المحلل السياسي ألان فراشون فيذهب إلى القول إن الإرهاب في أوروبا هو أحد تبعات انهيار الشرق الأوسط، هذا الانهيار الذي بدأ بتفكك العراق عقب الحرب الأمريكية عام 2003، ونشوء نزاع طائفي بين شيعة وسنّة غذّته القوى الإقليمية، حتى ظهور داعش في العراق أولا قبل أن يجتاح سورية، مشكّلا هزة عنيفة ليس في مناطق وجوده فحسب، وإنما أيضا في جهات كثيرة من العالم، واستطاع بفضل خطاب دعوي محكَم أن يلامس شباب العرب في الغرب. وفي رأيه أن الهذيان النيهيلي والشمولي لداعش فتن شرائح واسعة من المسلمين في أوروبا. وكما هي الحال في مولنبيك البلجيكية، يبدو الوضع في بعض البلدان الأوربية التي ساهمت في التراجيديا الشرقأوسطية، كفرنسا وبريطانيا، أشبه بالخلايا السرطانية، حيث تختلط الرومانسية الثورية بالإجرام والجنون القاتل المستوحى من ألعاب الفيديو.
هذا الافتتان بالموت يؤكده رولان كوتانسو عالم التحليل النفسي الذي يتردد على المتطرفين الجهاديين داخل السجون الفرنسية، وفي رأيه أنهم، وإن كانوا لا ينكرون قناعاتهم وانبهارهم بداعش، يختلفون من حيث بينة شخصياتهم، وينقسمون إلى أربع فئات. الأولى طيّعة، تتأثر بالخطاب الجهادي بسهولة، وترتدّ عنه بسهولة أيضا إذا ما وجدت من يهديها. والثانية تتكون من مثاليين متحمسين يؤمنون بأنهم إنما يرومون الالتحاق بسورية للانخراط في مشروع إنساني مزعوم. والثالثة لها قناعة من يرغب في المضي قُدما حتى النهاية، مدفوعة بإيمان ديني مطلق. والرابعة تتألف من مجرمي الحق العام، الذين يعيشون نمط حياة سيكوباتية، ويجدون في الانخراط في صفوف داعش هوية اجتماعية وهدفا لحياة تسير بنفسها إلى الخسران. كثير ممن قابلهم كوتانسو في السجن يعيشون في عالم افتراضي، وينبهرون بفيديوهات داعش، ويؤمنون إيمانا راسخا بصدقية خطابها، ويتمثلون أنفسهم محاربين يجوبون ساحات القتال كالأبطال. ولكنه يلاحظ أيضا اتكاء المنجذبين على بعضهم بعضا، إذ أن كثيرا منهم يعترف أنه ما كان لينخرط في الجهاد لو لم يجد أخا أو صديقا يرافقه.
الفيلسوف نيكولا غريمالدي يعالج المسألة من زاوية أخرى، ففي رأيه أن الراديكالية تقع على تخوم طبيعة البشر وشخصيتهم، وبالتالي فإن الفلسفة وعلم النفس والإثنولوجيا هي الأقدر على الإمساك بالمبدأ العام الذي يحدد التطرف ويغذيه. في كتاب صدر له أخيرا بعنوان “المسرنَمون الجدد” يؤكد أن وعي الإرهابيين يقع على تخوم الوعي بالواقع واللاوعي الواهم. انطلاقا من مثال القتلة في عملية “شارلي هبدو”، يصفهم بكونهم علّقوا الواقع باللاواقع، وأطلقوا النار بعيون مفتّحة كالمسرنمين الذين يصعدون السطوح مفتحي الأعين دون وعي بما يجابهون من أخطار. أي أنهم يتنقلون في حلم يقظة بين أرض الواقع وفردوس متخيل يعتقدون أنهم بالِغوه بقتل من لا يشاطرونهم أفكارهم، وهو ما يجعلهم بعيدي المنال عن الخطاب العادي أو الفكر الجدلي. وفي رأيه أن مملكة المطلق التي يعتقد القتلة أنهم رسُلها وشهداؤها هي بنية ذهنية، سرديةٌ متخيلة، مَثلها كمثل رواية يقتنع القارئ بأحداثها. وما يهم بعدئذ ليس الحكاية أو الواقع أو مصير الإنسان بعامة، بل الشرنقة الذهنية التي ينغلق فيها أولئك الشبان بفعل عمل بيداغوجي أو بإيعاز ممن يروجون خطاب الوهم ذاك عبر وسائل الاتصال الحديثة.
بشيء، إلهًا كان أم ثورة أم كتابا أم كلمة، فإن المنطق الداخلي لأي اعتقاد يقود إلى الغلو، والقناعة المطلقة بأننا على صواب، وبالتالي لنا الحق، الذي لا يقل عن الاعتقاد مطلقية، في إخراس كل من ليس على إيماننا ولو بالقتل. يقول غريمالدي: “إحدى أعراض التطرف الأكثر تميزا وجلاء هي العمى أمام الواقع. فالواقع بالنسبة إلى المتطرف هو منطقة ضبابية لا يتبين فيها أي شيء. فلئن كان النازيون يحرقون البشر دون تمييز بين شيب وشباب، بين نساء وأطفال، بين أغنياء وفقراء، بين علماء وأميين، فإن مجرمي داعش هم أيضا يقتلون بلا تمييز، حتى الأقرب إليهم والأقدر على مخاطبتهم وتفهّم مشاكلهم، لأنهم انقطعوا عن الواقع وصاروا يعيشون في حلم. ذلك أن المسرنم، أي السائر في المنام، في تصور الفيلسوف الفرنسي هو الذي يتصرف داخل الواقع دون أن يراه ويواصل سرديته المتخيلة بمنهجية وكأنه يؤدي مهمة. كذلك كانت تتم عمليات التقتيل الجماعي والتصفية العرقية والإبادة عبر التاريخ في جهات عديدة من العالم، بصفة عمياء، وكأن مرتكبيها يعيشون بعيدا عن الواقع. أي أن البشر، الذين اقترفوا أبشع الجرائم، لم ينفكوا ينظرون إلى متخيلهم كحقيقة، ليس لدى المتطرفين الإسلاميين وحدهم، بل لدى الشيوعيين الذين كانت لهم جنة سوفييتية وهمية يغصبون الناس عليها، والنازيين زمن الرايخ الثالث. وغريمالدي لا يعود لتأكيد وجهة نظرة إلى التاريخ القريب فقط، بل يستكشف التاريخ المسيحي ويستشهد بفلاسفة القرن الثامن عشر من فولتير وروسو وديدرو إلى لاميتري ودو دوكور وسواهم ممن انتقدوا الكاثوليكية لكونها جعلت من عدم التسامح شهادة إيمان. فبعد أن كان لكل شعب في سالف العصور إلهٌ خاص به، دون أن يفرض عبادته على الآخرين، لأن الدين في اعتقاد الأقدمين مسألة محلية، قبلية، جاءت الديانة الكاثوليكية لتدعي أنها كونية، فشنت حروبا على سائر الديانات الأخرى لترغمها على اعتناقها وممارسة شعائرها. وفي رأيه أن الكاثوليكية هي التي ابتدعت حروب الدين، وأوكلت للسلطة الملكية اجتثاث أدنى هرطقة. كذلك الثورة الفرنسية التي مارست، باسم الأنوار والتسامح، سياسة رعب وعدم تسامح. وقس على ذلك كل الإيديولوجيات التي سببت مجازر القرن العشرين. أليس من أجل عالم أكثر محبة وإخاء وعدالة ومساواة كان دعاتها يقتلون الأبرياء؟
والخلاصة أن التطرف الجهادي الذي يصيب أوروبا ويقتل أناسا من كل الجنسيات وكل المهن وكل الأديان ليس ذا طبيعة أخلاقية ولا سوسيولوجية، إذ إن مقترفيه ينحدرون من كل الأوساط، فمنهم العاطل والعامل، الفقير والميسور الحال، ومن مناطق غير ضواحي المدن الكبرى، ولكن ما يوحّدهم هو ذلك العمى أمام الواقع، فهم لا يبصرون شيئا، ولا يعرفون شيئا عن ضحاياهم، يستعملون راية الدين كغطاء لمعتقد يجعل من السردية المتخيلة ذروة الواقع، ثم يلغون الواقع لأنه يقف حائلا أمام تلك السردية. وذلك منتهى اللاوعي، وربما الجنون في وجهه العادي. عندما وصف أندريه بروطون الإنسان بـ”الحالم النهائي”، ألا يكون قد هيّأنا كي نفهم التطرف بكونه الجنون الأكثر عادية؟
مجلة الجديد اللندنية