التعاون الأميركي ـ التركي في الإنعاش

تعرض التعاون العسكري الأميركي ـ التركي في الشمال السوري، الذي لم يكن بأفضل حالاته أساساً، لنكسة قوية جراء تقدم تنظيم «داعش» في ريف حلب الشمالي مؤخراً.

وإذ سارعت تركيا إلى طرح بديل من صيغة التعاون التي كانت سائدة بين الطرفين، فإن التطورات المتسارعة في المنطقة تجعل من المستبعد أن يعود هذا التعاون بزخم أكبر عبر أي صيغة جديدة، خصوصاً في ظل التهديدات غير المباشرة التي يطرحها عدو أنقرة التقليدي «وحدات حماية الشعب» الكردية باجتياح مارع وإعزاز.

ولم يعد خافياً أن آخر صيغة من صيغ التعاون بين واشنطن وأنقرة قد تجسدت في بداية العام الحالي من خلال تأسيس «غرفة عمليات حوار كيليس»، التي كانت لها مهمة وحيدة هي محاربة تنظيم «داعش» بهدف دحره من الشريط الحدودي مع تركيا الممتد بين إعزاز وجرابلس.

وكانت أنقرة تأمل أن يؤدي نجاح المهمة إلى تحقيق حلمها بإنشاء منطقة آمنة، وإن بمسميات مختلفة وضوابط أقل مما كانت تخطط، حيث لم يكن وارداً حظر الطيران فوق هذه المنطقة لعدم رغبة واشنطن بالاصطدام مع الروس. وقد كانت ذروة الإنجازات التي حققتها «غرفة عمليات كيليس» هي السيطرة على بلدة الراعي الإستراتيجية في الأسبوع الأول من نيسان الماضي، غير أن التنظيم تمكن بعد أقل من 48 ساعة من استعادة السيطرة عليها، لتبدأ بعد ذلك سلسلة تراجعات «الغرفة» التي بلغت مداها الأخير، الأسبوع الماضي، مع الحصار الذي أطبقه «داعش» على مدينة مارع وتهديده لمدينة إعزاز الإستراتيجية، وهو الحال الذي لا يزال مستمراً حتى الآن.

وبالرغم من أن المتحدث باسم التحالف الدولي ستيف وارن أكد موضوع التعاون الأميركي ـ التركي في القتال ضد «داعش»، معتبراً، حسب تغريدات له على حسابه على «تويتر» كتبها آنذاك السيطرة على بلدة الراعي «إنجازاً يستحق الإشادة به»، إلا أن مجمل المعطيات على الأرض كانت تشير بوضوح إلى أن الولايات المتحدة لا تولي ما بات يعرف باسم «الفصائل المنتقاة» أو «المفحوصة» نفس الاهتمام والغطاء الجوي اللذين تحظى بهما «قوات سوريا الديموقراطية»، فشتّان ما بين طلعاتها الجوية الداعمة للقوات الكردية وتلك الداعمة لـ «غرفة كيليس». وقد بدت هذه الفروقات جليةً في اجتياح «داعش» الأخير لقرى ريف حلب الشمالي، حيث لم يسجل لطائرات التحالف الدولي، الذي تقوده واشنطن، أي دور في منع تقدم «داعش».

وقد كان لافتاً أن مجموعة من قادة الفصائل، المدعومة أميركياً وتركياً، بدأت بتوجيه اتهامات صريحة إلى التحالف الدولي بالتخلي عنهم، وتركهم فريسة سهلة لتنظيم «داعش». وعلى رأس هؤلاء قائد «فرقة الحمزة» سيف الدين بولاد الذي قال، في تصريحات صحافية، إن «التحالف الدولي خفف من طلعاته الجوية في الآونة الأخيرة، وإنه يسعى إلى إتاحة الفرصة لحزب الاتحاد الديموقراطي للتقدم نحو مارع والسيطرة عليها، وبالتالي منح المنظمة شرعية دولية لقتال تنظيم داعش».

هذه التطورات تلقي بظلال من الشك على إمكانية استمرار «غرفة عمليات حوار كيليس»، لا سيما إذا تمكن «داعش» من مواصلة تطويق مارع، وهو ما يعني أن صيغة التعاون الأميركي ـ التركي في المنطقة دخلت عملياً غرفة الإنعاش وتحتاج إلى جهود كبيرة لإنقاذها وإعادتها إلى فاعليتها السابقة التي لم تكن على ما يرام بكل الأحوال.

وما قد يزيد من تفاقم المأزق، أن أحداث ريف حلب الشمالي لا تهدد بانتهاء «غرفة عمليات كيليس» وحسب، بل ثمة معطيات تؤكد أن أمر الفصائل المشكِّلة للغرفة يسير نحو الانقسام والتشرذم. ومن غير المستبعد، في حال استمرار الأوضاع على هذا النحو، أن تنخرط في اقتتال بين بعضها بعضاً وفقاً لما تفرضه الأحداث من موازين قوى جديدة. وفي هذا السياق، تؤكد مصادر مقربة من «لواء المعتصم»، الذي يتمركز في مدينة مارع المحاصرة، أن قيادة «اللواء» تفكر جدياً، إذا طال الحصار عليها أكثر مما ينبغي، بالانضمام إلى «قوات سوريا الديموقراطية» في مدينة عفرين بعد تسليمها المدينة قبل أن يجتاحها «داعش».

وتتقاطع معلومات المصادر مع تصريحات المتحدث باسم «قوات سوريا الديموقراطية» العقيد طلال سلو التي أعرب فيها عن استعداد القوات لتلبية نداء «الشهباء» (أي إعزاز ومحيطها) لتخليصهم من مرتزقة «داعش» وأي جهة أخرى تحاول المساس بأمنهم، مشيراً إلى أن «قوات سوريا الديموقراطية حاولت قبل الآن التدخل وحماية الشعب في منطقة الشهباء، لكن الدولة التركية تدخلت ومنعت تقدمهم».

وفي حال نشوء مثل هذا التعاون بين الفصيلين فسيكون قد حقق خدمة كبيرة لواشنطن، لأنه يعني توحيد الفصائل المدعومة من وكالة الاستخبارات الأميركية (سي أي إيه) والفصائل المدعومة من «البنتاغون»، ما يعني تقليل الإرباك الذي كانت تشعر به واشنطن بسبب الخلافات بين هذه الفصائل، والتي كانت في بعض الأحيان تصل إلى حد الاقتتال بين بعضها البعض.

من جهة أخرى، هناك فصــائل ثانية ضمن «غرفـة كيليس» تفضل، أو ليس لديها خيار آخر، سوى مواصلة العمل تحت العباءة التركية. ومن هنا يمكن فهم البيان الصادر في مدينة إعزاز بخصوص منع دخول النازحين وعائلات المسلحين في الفصائل الأخرى إلى المدينة، وقد استثني في ما بعد فصيل «أحرار الشرقية» المكوَّن من مسلحين من مدينة دير الزور، والذي يتلقى دعماً تركياً واضحاً. فالفصائل في مدينة إعزاز لا تخشى فقط من تسلل خلايا «داعش» تحت ستار النازحين وحسب، بل لم تعد تثق أيضاً ببعض الفصائل الأخرى التي انهارت أمام التنظيم ولم تتمكن من إيقاف تقدمه.

وقد تكون السلطات التركية التقطت الإشارات التي بثّها المشهد المستجد في ريف حلب الشمالي، فسارعت إلى طرح صيغة جديدة للتعاون بينها وبين واشنطن، تقوم على التعاون المباشر وليس من خلال الفصائل. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يتزامن هذا الطرح مع تشديد أنقرة على عدم مشاركة الأكراد في العمليات العسكرية المشتركة التي اقترحتها. فهذا التشديد، في هذا التوقيت، يدل على أن لدى أنقرة شكوكاً مماثلة لتلك التي عبّر عنها بعض قادة الفصائل حول رغبة واشنطن في تصدير الأكراد لقتال «داعش»، بل من غير المستبعد أن يكون حديث بعض قادة الفصائل بهذا الخصوص مقتبساً مما سمعوه خلال اجتماعاتهم مع بعض الضباط الأتراك مؤخراً، وتدارسوا فيها كيفية وقف تقدم التنظيم ومنع الأكراد من الاستفادة من الواقع الجديد. ولا شك في أن عدم رد واشنطن حتى الآن على الاقتراح التركي يشير إلى رفضها له، أو على الأقل يدل على أنها في طور البحث عن صيغة تحافظ بها على تحالفها مع الأكراد من دون أن تتأزم علاقتها مع تركيا.

وتأتي هذه التغييرات في طبيعة التعاون الأميركي ـ التركي على وقع انطلاق معركة الرقة، التي لم تخف أنقرة امتعاضها منها، وانتقدت بقسوة ظهور جنود أميركيين في الصفوف الأمامية لـ «قوات سوريا الديموقراطية». كما تأتي وسط تسريبات بخصوص إمكانية فتح الأكراد معركة مدينة منبج، كاسرين بذلك الخط الأحمر التركي، وهو ما سيعني نهاية أي أمل في استمرار أي شكل من أشكال التعاون بين واشنطن وأنقرة، هذا إذا لم يفاقم أزمة العلاقة بين الطرفين ويصل بها إلى حد التصادم.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى