التعدّد اللّغوي وقِيم المُواطَنة العالميّة
شهد العالم حربَيْن عالميَّتَيْن، ولا يزال يشهد الصراعات الدّولية، والنزاعات الإقليميّة، والاضطرابات المحلّية، والاشتباكات الطائفية. فهل تأمّلنا لماذا يحدث كلّ هذا وذاك، هنا وهناك، حيناً وآخر؟ لو تأمّلنا لوجدنا أنّ سبب حدوث معظم هذه النزاعات والصراعات عائد إلى الاختلافات اللّغوية أو العرقية أو الدينية أو الإيديولوجية أو الاقتصادية، لأنّ كلّ طرف يرفض الاعتراف بالآخر: بلغته، وعرقه، ودينه، وإيديولوجيّته. بل يسعى كلّ طرف – فرداً أم جماعةً أم دولةً – إلى تحقيق مصالحه وأهدافه على حساب الطرف الآخر.
لعلّ هذا ما يصلُح لأن يُسمّى بـ”النظرية الأحادية” التي لا يعترف صاحبها بالآخر، وبلغته، ودينه، وثقافته، ما يُفضي إلى إقصاء الطرف الآخر وتهميشه، وزرع بذور الكراهية والصدام بين أصحاب اللّغات والثقافات المتعدّدة، وبالتالي إلى زَعْزَعَة الأمن والسلام في المجتمعات. فثبت أنّ الاعتراف بالتعدّدية – اللّغوية والثقافية والدينية والعرقية والإيديولوجية – هو الحلّ الوحيد لكثير من الصراعات والنزاعات. من بين هذه التعدّديات، يلعب التعدّد اللّغوي دوراً رياديّاً في إنتاج الوعي الثقافي والتفاهم الدّولي، وبالتالي في الاندماج في المجتمعات الدّولية.
مفهموم المُواطَنة العالميّة
المُواطَنة تعني الشعور بالانتماء إلى الوطن والولاء له. أمّا المُواطَنة العالميّة فهي الشعور بالانتماء إلى مجتمعٍ أوسع وأرحب يتخطّى الحدود الجغرافية والوطنية. فالمواطن العالمي ينتمي إلى إنسانية عالمية مشترَكة، ولا يتعصّب للغةٍ أو ديانةٍ أو إيديولوجيّة، بل يتزوّد بالمعلومات عن القضايا الدولية والقِيم الإنسانية العالمية ويتفاعل ويتأثّر بما يجري في الكون، ويتقاسم المسؤوليات والواجبات، ويتألّم بآلام المتضرّرين، ويتضامن مع مَن يحتاج إلى ذلك مادياً أو معنوياً. وهو كذلك يعترف بوجود لغات متعدّدة، وثقافات متنوّعة، وديانات مختلفة، وإيديولوجيات متلوّنة، ويحترمها احتراماً كاملاً. فالمُواطَنة العالميّة تَجعَل المجتمع العالمي مثل الجسد الواحد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائر الجسد بالسهَر والحُمِّى.
الوحدة في التعدّدية.. الهند نموذجاً
الهند بلد لا يعتزّ بالتعدّد الديني والثقافي فحسب، بل يتميّز بالتعدّد اللّغوي أيضاً، ويَزخَر بعددٍ كبير من اللّغات. إنّ شعب الهند يتحدّث بـ780 لغة في الأقاليم المختلفة بحسب ما ورد في أوّل دراسة لغوية شاملة في الهند المستقلّة أجراها مركز بحوث اللّغة والنشر Bhasha Research and publication Centre عام 2014. ومن بَين 780 لغة، توجد 122 لغة يتحدّث بها أكثر من عشرة آلاف من الهنود. أمّا باقي تلك اللّغات، فيتكلّم بها أقلّ من عشرة آلاف من الهنود؛ فيما تتجاوز اللّهجات المحلّية 1602 لهجة تعود أصولها إلى عائلات لغوية متعدّدة وهي الهندو – آرية، والدرافيديّة، والأسترو- آسيويّة، و التبيتو – البرميّة.
فالهند هي حقّاً مثال رائع للتعدّد اللّغوي، حيث يجري حبّ التعدّد اللّغوي في شرايين مواطنيها، وحيث يتحدّث معظم مواطنيها بلغتَيْن أو أكثر، ويربط بين أفراد شعبها تعايشٌ سلميّ قائم على التفاهم والتعاون والاحترام المتبادل. لذا تمثّل الهند نموذجاً حيّاً للوحدة في التعدّدية، وتَصلُح أن تكون قُدوة حسنة لتعزيز روح المواطنة العالمية، وأن تختارها اليونسكو كنموذج لنشر الوعي في العالم بأنّ التعدّد اللّغوي لا يخالف الوحدة، بل يمهِّد الطريق إلى الترابط الودّي بين الشعوب متعدّدة اللّغات.
دور التعدّد اللّغوي في التفاهم الدّولي
أظهَرت الدراسات العلميّة أنّ تعلّم اللّغة أو اللّغات الأجنبية يُسهم بقدر كبير في خلق روح التسامح والمودّة والرحمة في الإنسان متعدّد اللغات تجاه بني جنسه بعامّة وتجاه أهل تلك اللغات بخاصّة. وبذلك، تتطوّر روح التفاهم والتضامن الدّولي وتنمو الجوانب الإنسانية في شخصية متعلّم اللّغة أو اللّغات الأجنبية. وقد جرّبتُ ذلك شخصياً، وشاهدتُ ذلك كطالبٍ في جامعة جواهر لال نهرو، أشهر الجامعات الهنديّة في تعليم اللّغات الأجنبية. فكلّية اللغات في هذه الجامعة تعتني بتدريس لغات عدّة، من آسيوية، وأوروبية، وأميركية، وأفريقية. فهي في الحقيقة تبدو بلداً داخل بلد يزخر بالطلّاب متعدّدي الجنسيات واللغات والثقافات والديانات والحضارات، يتعلّمون اللغات، ويتحادثون في ما بينهم، ويتبادلون الآراء والأفكار، ويتفاهمون مع بعضهم البعض. فلا تجد فرقاً ولا تمييزاً بين الذكر والأنثى والأسود والأحمر. فرأيت هناك كيف أنّ طالب اللغة الأجنبية تأثَّر وتغيّرت أفكاره ووجهات نظره تجاه العالم أو على الأقلّ تجاه الدولة التي يتعلّم لغتها لأنّه لا يتعلّم اللغة الأجنبية فقط، بل يتعلّم معها ثقافتها وحضارتها وقِيمها، وهو يتابع أيضاً الأخبار السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الدولة أو تلك، ويجد نفسه مرتبطاً بها.
دور التعدّد اللّغوي في المجال الاقتصادي
يُسهم التعدّد اللّغوي في تيسير الأمور في النشاطات الاقتصادية، لكون العالم بات بمثابة قرية صغيرة؛ فهو يُساعد في إحداث التنويع الاقتصادي من جانب، ويلعب دوراً ريادياً في العولَمة الاقتصادية وفي تسيير عجلة التبادل التجاري من جانب آخر، لأنّ التأثير الكبير الذي جاءت به العَولَمة في عصرنا الحاضر يشمل مجالات مختلفة من حياتنا. وقد ازدادت أهمّية اللغات مع ترسُّخ جذور العَولَمة الاقتصادية والاقتصاد الرقمي، وتطوّر وسائل الاتّصال ومجتمع المعلومات الحديثة. فالتعدّد اللّغوي يدعم القدرة التنافسية لشركات التجارة والأعمال في الأسواق متعدّدة اللّغات، بحيث يؤدّي ذلك إلى زيادة مردودها الاقتصادي.
احترام التعدّد اللّغوي خير ضمان لتحقيق الأمن والسلام
سبق أن ذكرت أنّ معظم النزاعات والصراعات تنشأ من عدم الاعتراف بالآخر، بلغته، ودينه، وثقافته، وعرقه. ولكن عندما يتعلّم المرء لغة الآخر يجد أثناء ذلك فرصة للتبادل والتفاهم والتفاعل مع أبناء تلك اللغة، وبالتالي تنتج في داخله، شيئاً فشيئاً، روح التسامح وعقلية التصالح، واحترام الغير. فهو يتوجّه تلقائياً إلى الشعور بالانتماء إلى المواطنة الكَونية، ويعتبر نفسه جزءاً لا يتجزّأ من المجتمع الدّولي، ويتعاطف مع الضحايا العالميّين، ويفرح بفرح بني جنسه ويتألّم بآلامهم. وإذا حصل ذلك، فلا مكان للكراهية والحقد والتفريق والصراع والنزاع. هكذا يؤدّي التعدّد اللّغوي إلى تحقيق الأمن والسلام في العالم.
التعدّد اللّغوي بين الاستراتيجيّة والتنفيذ
السؤال المهمّ الذي يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد هو كيف يُعزِّز التخطيط الجيّد تنوّع اللّغات والتعدّد اللّغوي وما هي مجالات تنفيذه؟ الجواب يتمثّل ببعض الخطوات والمبادرات لترويج التعدّد اللّغوي، وأبرزها:
النّظام المدرسي: الجامعات والمعاهد التعليمية ومراكز اللّغات الخاصّة هي التي تُسهِم أكثر في إنتاج الموارد البشرية متعدِّدة اللّغات. ولكن يُمكن للحكومة أن تعتمد التعليم المتعدّد اللّغات بدءاً من المدرسة، وهو ما قامت اليونسكو باقتراحه.
العالم الرقمي: لا بدّ من أن يكون هذا العالم الواسع متعدّد اللغات ليستفيد منه الجميع، وليجد أبناء مختلف اللغات فرصة للارتباط بالمواطنين العالميّين.
مجال الاقتصاد: بسبب العولمة الاقتصادية ازدادت النشاطات الاقتصادية فهي بحاجة ماسّة إلى التعدّدية اللغوية لتوسيع مجالاتها، وتعميم فوائدها على نطاق أوسع وأرحب.
شبكات التواصل الاجتماعي: ينبغي أن تكون شبكات التواصل الاجتماعي متعدّدة اللغات لكونها أكثر شعبية واستخداماً في هذه الأيام، ولأهمّيتها الكبرى في مجالات مختلفة من حياة الإنسان.
وسائل الإعلام: تشكّل وسائل الإعلام مجالاً واسعاً وعاملاً مؤثِّراً في المجتمعات الإنسانية، فلا بدّ من أن تتّسم بتعدّد اللّغات في جميع الدول لئلّا تقتصر على فئة خاصّة.
فتح المكاتب والفروع: ينبغي للدول أن تتّخذ خطوات نحو فتح المكاتب والفروع في الدول المختلفة التي تهتمّ بتعزيز التعدّدية اللّغوية، وتقوم بإجراء المسابقات في اللّغات المختلفة في الكتابة والخطابة والنقاش وما إلى ذلك.
استخدام المؤسّسات والمعاهد التعليمية الموجودة: يمكن أن تستفيد الأُمم المتّحدة من المؤسّسات والمعاهد التعليمية الموجودة في الدول المختلفة في بلْورة الوعي أو إجراء المسابقات في مجالات مختلفة تختصّ باللغات والثقافات.
فتح قسم خاصّ باللغة في السفارات: على الدول والحكومات أن تفتح قسماً خاصّاً في سفاراتها لدى الدّول المختلفة لتدريس لغاتها وترويجها وبرسوم منخفضة. لا شكّ في أنّ بعض الدّول تستخدِم سفاراتها لترويج لُغاتها، لكنّ معظمها لا يهتمّ للأمر.
تشجيع متعدّدي اللّغات: على السفارات أن تقوم بتشجيع مكتسبي لغاتها بإجراء المسابقات وتوزيع الجوائز والشهادات للفائزين، وإعطائهم فرصة لقضاء بعض الوقت في دول لغاتهم المكتسَبة.
تدريب معلّمي اللّغات: على الجهات المعنيَّة أن تهتمّ بتدريب معلّمي اللّغات الدّولية في الدّول المَعنيّة لفترة قصيرة المدى أو طويلة المدى.
*باحث في الدكتوراه – جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)