التفاوض على سوريا: حول «علمانية» الدولة و«مدنيتها»

مَن كان يتكهّن حين علت أصوات بعض المفكرين والسياسيين والمهتمين بالشأن السياسي والمدني في سوريا، مستنكرة ومحذرة من الردّ على التظاهر السلمي بالقوة ومن انزلاق الحراك السوري إلى العسكرة مبرراً بعنف النظام، أن الأمور ستصل إلى ما وصلت إليه الآن من دمار وموت وتشرد ولجوء وفقر ومجاعة وانقسام، إضافة إلى خسائر تاريخية وثقافية لا يمكن تعويضها، وفي النهاية ضياع للأهداف التي حلمت جماهير المنطقة بتحقيقها، أو على الأقل انخفاض سقفها إلى أدنى المستويات؟

تلك الأصوات كانت أشبه بصراخ حالم تتفتق حنجرته ولا يعدوها صوته في خضم ضجيج إعلامي مجحفل ومدروس وموجّه، لا يقل تأثيره عن تأثير المدافع والدبابات والطائرات، لا بل يقود ذلك التأثير ويضخمه لإحراز أهداف تحقق مصالح رعاة هذا الإعلام.

كان تبرير العنف والعسكرة هدية أغلى من الذهب قدّمت للنظام، وساهمت بما وصلت إليه المنطقة. فهل كان مرتكبو هذا التبرير يعلمون ما يفعلون، وما الدافع إلى هذا السؤال الذي بات يبدو قديماً أو عديم الجدوى الآن، بعدما وقع ما وقع؟

ولتقديم إجابة وافية، يفيد تقسيم أصحاب الرأي إلى فئتين، أولاهما تمثل قادة الرأي وصنّاعه، والثانية هي أقرب إلى فئة المتلقِّين. ويشكّل الأخيرون الشريحة العظمى من أفراد الشعب، بدءاً من المكافحين من أجل العيش والذين لا يملكون من الرأي إلا ما يقدّمه لهم الفضاء الاجتماعي والثقافي العام الذي يعيشونه، وصولاً إلى العاملين في الشأن الثقافي والسياسي من كتاب وصحافيين وإعلاميين وأتباع سياسيين، ممن تضيق مسؤوليتهم عن خياراتهم وآرائهم لتنحصر في أشخاصهم تقريباً.

أما قائمة صنّاع الرأي وقادته، والتي تضمّ مفكرين ومثقفين وقادة المعارضة السياسية فإنها قائمة مَن يتحمّلون مسؤولية تاريخية في عملية التغيير.

ويحضر هنا التمييز الذي أورده ميشال فوكو بين المثقف الكوني الذي يسند لنفسه باسم مشروعه الفلسفي الحقّ في التدخّل في مواضيع وشؤون اجتماعية وسياسية عديدة، والمثقف النوعي صاحب الاختصاص، الذي يكون لكلامه سلطة معترف له بها اجتماعياً (سيرج بوغام، «ممارسة علم الاجتماع»، ص. 206). وفي الحالتين، ثمة مسؤولية أخلاقية وتاريخية. أما ما يدفع لإثارة السؤال المذكور أعلاه الآن، فهي واقعة رضوخ الكثير من المثقفين والعاملين في المجال السياسي لما يمكن اعتباره حيلة تعويم مفهوم «الدولة المدنية» على حساب مفهوم «الدولة العلمانية». وفي هذا تحايل كما سنظهر في ما يلي. فالمفهومان يتشابهان بأنهما يقرّان مبادئ المواطنة والديموقراطية وحرية التعبير. لكنهما يختلفان في نقاط أساسية، تتصل بما يسمّيها الدكتور عادل ضاهر النواة السيمانتية للعلمانية، وأهمها:

ـ أن الدولة المدنية لا تعلن ولا تدعم فصلاً واضحاً بين الدين والسياسة، أي بين الدين والمؤسسات السياسية، بينما تعلن المبادئ العلمانية ذلك وتفرضه دستورياً.

ـ كذلك لا تعلن الدولة المدنية ولا تدعم إيقاف التعليم الديني في المدارس واستبداله بالتعليم الفلسفي الذي يتضمّن الأفكار والمعتقدات كلها بما فيها الأديان، بينما تؤيد العلمانية ذلك.

ـ تشترط العلمانية عدم هيمنة أحد المجالين العام والخاص والتمييز بينهما إلى أقصى حدّ يمكن للمجتمع الوصول إليه لتحقيق أعلى درجة من حقوق الإنسان.

لقد تمّ من قبل الكثيرين قبول تعويم مفهوم «الدولة المدنية» مفصولاً عن العلمانية، بعد حملات تشويه واسعة طالت المفهوم الأخير، حيث تمّ وسمه بأنه مفهوم إلحادي معادٍ للأديان، وهذا أمر منافٍ للحقيقة تماماً. إذ إن العلمانية تقوم على وضع الدين في موضعه «المستقل» بالنسبة للإنسان الحديث، أي باعتباره شأناً يخصّ اعتقاد الإنسان وإيمانه وهو حرّ فيه تماماً.

علماً أن الكثير من المفكرين بمن فيهم رجال دين باتوا مقتنعين أن الفصل بين الدين والسياسة لا يسيء إلى الدين، إنما يتيح نمواً طبيعياً للمجتمع وللأفكار والمعتقدات بأقل قدر من الإكراهات السياسية. وعدد المعابد المنتشرة لجميع الأديان في أوروبا العلمانية يؤكد ذلك.

غير أن قوة القائمين على رفض مفهوم العلمانية وتجذّرهم في الحكم والمجتمع، وهم أساساً رجال الدين السلطويوّن ومنظّرو التيارات والأحزاب الدينية والحكام وأتباعهم وذيولهم الذين يتحكّمون بالرأي العام وبصناعته، قوتهم هذه مكّنتهم من الفصل بين مفهومي «المدنية» و«العلمانية» وشيطنة الأخير، وذلك لأسباب واضحة تتمثل بضمان سيطرتهم على الحكم عبر انتخابات ديموقراطية في ظاهرها تؤدي لوصول تيارات تستند إلى الحامل الاجتماعي الديني، بحجة حقه في التعبير والحكم، وهو ما يعيد إنتاج أنظمة حكم تسلطية استبدادية بأشكال أخرى.

وهنا يجب وضع الليبراليين الذين قبلوا الفصل بين «العلمانية» و «المدنية» وروّجوا ونظّروا له، موضع المساءلة والمسؤولية، كما يجب النضال لعدم التسليم بهذا الفصل، واشتراط ذلك دستورياً في سوريا.

وإذا تأملنا بعض ما ورد في وثيقة «العهد الوطني» التي أقرها مؤتمر المعارضة السورية المنعقد تحت رعاية جامعة الدول العربية في القاهرة بتاريخ 3/7/2012، والتي عاد مؤتمر القاهرة 2015 إلى تأكيدها ذاتها مع نجاحه بإضافة جملة «الدين لله والوطن للجميع»، لوجدنا أنها «ملغومة». ومن بين هذه النصوص، نجد ما يلي على سبيل المثال:

«تكفل الدولة السورية احترام التنوّع المجتمعي ومعتقدات ومصالح وخصوصيّات كل أطياف الشعب السوري، وتقرّ بالحقوق الثقافية والسياسية لكلّ مكوّناته وتطلّعها للتطور والرعاية». (هذا نقيض لفكرة المواطنة).

«الشعب السوري شعب واحد، تأسّست لحمته عبر التاريخ على المساواة التامّة في المواطنة بمعزل عن الأصل أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الإثنيّة أو الرأي السياسي أو الدين أو المذهب، على أساس وفاق وطنيّ شامل، لا يجوز لأحد فرض دينٍ أو اعتقادٍ على أحد، أو أن يمنع أحداً من حريّة اختيار عقيدته وممارستها». (متى عرف الشعب السوري في التاريخ المساواة التامة في المواطنة؟).

إن التأكيد على مبدأ «علمانية» الدولة في سوريا، هو شرط رئيس لتحقيق مبادئ المساواة والمواطنة، ولبناء مشروع الدولة الوطنية الديموقراطية. أما خلاف ذلك فتحوير في المعاني، وتفخيخ للنصوص.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى