التقدّم الاقتصادي بوّابته المساءلة والمحاسبة
تُعتبر المساءلة والمحاسبة شرطاً أساسياً للنهضة الاقتصادية والتنمية الإنسانية، فهي الضامن لاستمرارية النموّ الاقتصادي ومحاربة كلّ أشكال الإقصاء، والتمييز، والمحاباة، والرشوة. ومع استفحال الفساد الإداري والمالي واندثار الاقتصاد في المنطقة العربية، لا بدّ من إرساء قواعد المساءلة والمحاسبة بحيث تنخرط في المشروع الديمقراطي العربي.
تُعرِّف الأمم المتّحدة المساءلة على أنّها الطلب من المسؤولين تقديم التوضيحات اللازمة لأصحاب المصلحة حول كيفية استخدام صلاحيّاتهم وتصريف واجباتهم، والأخذ بالانتقادات التي توجَّه لهم، وقبول المسؤولية عن الفشل وعدم الكفاءة أو عن الخداع والغشّ. ونتيجة لذلك، فالمساءلة هي وسيلة تمكِّن الأفراد والمؤسّسات من تحمّل مسؤولياتهم وتبرير أدائهم للوثوق بهم، حيث إنّها مجموعة من الأدوات و التقنيات لتقييم السياسات العامّة، ولتجسيد مفهوم ديموقراطية الإدارة. أمّا المحاسبة فهي واجب الكشف عن كيفيّة التصرّف في المسؤولية المُعطاة، من خلال تقديم كشف حساب عن نتائج وأهداف تمّ الاتّفاق على شروطها مسبقاً من حيث النوع، والكلفة، والتوقيت، والجودة.
وعلى هذا النحو، فالمحاسبة مكمِّلة للمساءلة بسعيها إلى تحسين أداء المؤسّسات والارتقاء بها عبر المراقبة المستمرّة، والتدقيق، وإدارة المخاطر. ونجد أنّ المحاسبة منقسِمة إلى تيّارَين أساسيَّين: الأوّل يقصد بالمحاسبة مجموعة من الواجبات والقواعد التي تتابع الوظيفة السياسية للدولة والمتمثّلة في صياغة السياسات وتنفيذها. هنا، المحاسبة تراقب الأداء العام وتتأكَّد من تحقّق الأهداف بالكفاءة المطلوبة. أمّا التيار الثاني فيعني بالمحاسبة تلك الآليات المعتَمَدة لإنجاز الوظيفة الإدارية للدولة الهادفة إلى تطبيق السياسات العامّة بفعالية وفاعلية عالية.
لقد أصبحت المساءلة والمحاسبة بعامّة معياراً للكفاءة الحكومية ومُحدِّداً لمصداقية المؤسّسات العامّة و استراتيجيّاتها الموجَّهة نحو المواطن. وممّا تجب الإشارة إليه، هو أنّ كفاءة هذه المؤسّسات مرتبطة بصدق الدولة في التعاطي مع حاجيات المواطنين وتقديم خدمة ذات جودة عالية، الأمر الذي يستلزم تثميناً للخبرات، وتمكيناً للموارد البشرية وتحفيزاً لها من أجل إرضاء الزبون- المواطن.
المساءلة والمحاسبة ومسألة الثقة
علاوة على ذلك، تشكّل المساءلة والمحاسبة ركيزة أساسية نحو الثقة بالأجهزة الحكومية والقطاع العام. فتفشّي الفساد وانتشار ممارسات الريع يوسِّع الفجوة بين الدولة والمواطنين. وبذلك، أصبحت الثقة رأسمالاً داعماً للعلاقة بينهما تغذّيها الشفافية ونشر المعلومات. ونجد أنّ العديد من المؤسّسات الدولية، ومنها منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تحثّ على الإفصاح عن المعلومات التي تخصّ الإدارات العامّة وعلى نشرها بجعْلها مُتاحة للعموم. وهي تدعو للإعلان عن أهداف المؤسّسة ومدى تحقيقها مسبّبات المخاطر والتدابير المُتَّخذة لمواجهتها، والمعاملات بين أصحاب المصلحة والمساعدات المالية، بما في ذلك الضمانات الواردة من الدولة والالتزامات التي تعهّدت بها لحساب المؤسّسات العامّة.
فضلاً عن ذلك، تستند المساءلة والمحاسبة إلى الحوكمة كمجموعة من الآليات والوسائل لتعبئة الحركة الجماعية لمختلف الفاعلين والفرقاء حول غايةٍ مشتركة، مع العمل على فصل السلطات واستقلالها و توازنها. والحوكمة هي فلسفة في التفكير وسلوك في التنزيل والتدبير، بحيث إنّ عمقها الاستراتيجي ينبني على التأثير المباشر في الحياة العامّة للمواطنين. وبذلك، فالحوكمة هي مقاربة تشاركية لإدارة الشؤون العامّة، استناداً إلى تعبئة الفاعلين السياسيّين والاقتصاديّين والاجتماعيّين المنتمين إلى القطاع العامّ و الخاصّ، وكذلك المجتمع المدني، من أجل ضمان رفاهٍ دائم لجميع المواطنين.
ومنذ فترة الاستقلال إلى الآن، ما زال العالم العربي يعاني من إشكالية بناء مؤسّسات الدولة، طبيعتها و شكلها الذي ترتضيه في مصاف الأمم، من دون إدراكٍ للأهمّية البالغة للمؤسّسات في تشييد صرح الدولة والحفاظ عليها. فالمؤسّسات هي الدعامة الحقيقية لشرايين الدولة، وهي صاحبة الاتّصال المباشر بالمواطنين في كلّ حاجاتهم الخدمية والحقوقية.
وعلى هذا النحو، فعندما نشخّص حالة المؤسّسات العربية، نجد أنّها تعاني من عجز كبير عن أداء وظائفها، وعلى اختلاف شرعية هذه المؤسّسات، سواء أكانت مُعيَّنة من الحكّام أو مُنتخَبة من الشعب، و كذلك باختلاف طبيعتها السياسية، والاقتصادية، والثقافية أو المجتمعية؛ فهي مؤسّسات في الغالب يغلب عليها الارتهان الناجم عن الفساد الإداري والمالي، وقلّة الكفاءة العاملة، فضلاً عن إدارة ماليّة سيّئة، وإهدارٍ للموارد، وصراع في المصالح بين الشركاء والفرقاء.
يبدو الطريق نحو إقلاعٍ تنمويّ، على العموم، شاقّاً. فالتجارب العالمية توضح جليّاً شروطاً لا محيد عنها للانضمام إلى الدول الصاعدة. فتحقيق معدّلات نموّ مرتفعة، يفترض نظاماً فعّالاً للحكم الرشيد يفصل بين السلطات ويربط المسؤولية بالمحاسبة، كما يفترض التماسك الاجتماعي وتوسيع الطبقة الوسطى باعتبارها ركن الزاوية في السلّم الاجتماعي. وفي المسار نفسه، يجب أن تلعب الدولة دور المستثمر الاستراتيجي الذي يسخِّر جهده للنهوض بقطاعٍ اقتصاديّ معيّن، يصل مداه إلى تعزيز الخدمات الأساسية في جهةٍ ما. فالاستثمار العمومي في القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحّة ليس مجموعة من التكاليف، بل توظيف المال للحدّ من الفقر والعوز، ورفع ضمير الأمّة في مدارج الرقيّ.
علاوة على ذلك، تحتاج الدول العربية إلى إرساء إدارة مؤهَّلة وفاعلة. ويتعلّق الأمر في بدايته بإدارة الموارد البشرية. وقد سجّلت إدارة الموارد البشرية قفزة نوعية مع بداية القرن الحالي، وانتقلت من إدارة شؤون العاملين إلى تنمية الرأسمال البشري. حيث أصبحت الموارد البشرية ثروة وإحدى المميزات التنافسية التي تستوجِب التثمين والاستثمار. ثمّ إدارة المخاطر، التي تمثّل مجموع الوسائل والتقنيات التي يتمّ اللجوء إليها من أجل تخفيض تأثير الخطر والتحكّم به في مستوى معيّن. فليست هناك إدارة قادرة على تصفير المخاطر والقضاء عليها نهائياً، بل هناك إجراءات وتدابير تسعى لاحتوائها والتمكّن من التغلّب عليها بما يؤمّن اتّخاذ القرار؛ فضلاً عن ضرورة الاستعانة بتقنيات اليقظة الاستراتيجية والذكاء الاقتصادي، التي تعمل على الغوص في حالات عدم اليقين من خلال مجموعة من التقنيات والأنشطة المترابطة والمتفاعلة للبحث عن المعلومة، لمعالجتها وتحليلها، ومن ثمّ توزيعها على الدوائر الاقتصادية المعنيَّة. يهدف ذلك إلى خلق ديناميكية جماعية بنّاءة تجعل الفاعلين في المؤسّسة في خدمة ثمين المعرفة، وكشف الحجاب عن الفرص والمخاطر، والتحكّم بالكفاءة التنظيمية واستعمال آليات الضغط قصد اتّخاذ القرارات المناسبة.
وفي ظلّ جيلٍ جديدٍ من الإشكاليات الاقتصادية، فإنّ نسبة الإنجاز الاقتصادي تتحدّد وفقاً لمدى الانحياز الاجتماعي بالتأثير المباشر على المواطنين، وبخاصّة الفئات المعوزة. غير ذلك يبقى الإصلاح الاقتصادي مجرّد ذرّ للرماد على العيون، وتبقى فجوة كبيرة بين اقتصاد الدولة واقتصاد الشعب. ويشير الباحثان الاقتصاديّان دارون أسيمو أوغلو وجيمس روبنسن في كتابهما “لماذا تفشل الأُمم؟ جذور السلطة والرفاهية والفقر في العالم” إلى نوعَيْن من أنظمة الحكم: أنظمة بمؤسّسات سياسية واقتصادية جامعة و أخرى بمؤسّسات استحواذية. تعتمد المؤسسات الجامعة على عدالة القانون وتُطلق بذلك العنان أمام الكفاءات الوطنية نحو المبادرة الحرّة وريادة الأعمال، ما يُنتِج إبداعاً يُرخي بظلاله على عموم الوطن، كما تؤمِّن المؤسّسات الجامعة الخدمات الأساسية للمواطنين، وفي مقدّمتها التعليم، كرافعة لنهضة الأُمم و محرّك للتنمية الإنسانية، وتحصين حقوق الملكية وخلق حوافز مغرية للمنشآت والمقاولات المبتكَرة. وعلى النقيض من ذلك، ترمي المؤسّسات الاستحواذية إلى استئثار قلّة متنفّذة على السلطات من دون رقيب أو حسيب، مما ينجم عنه إقصاء للفئات المجتمعية الأخرى؛ الأمر الذي من شأنه إعاقة التنمية والازدهار الاقتصادي.
باختصار، تُعتبَر قضية المساءلة والمحاسبة مسألة عدالة، والعدل هو أساس الاستقرار السياسي، والعمران الاقتصادي، ومنهاج التنمية، وذلك بحسب ما يقول ابن خلدون في مقدّمته: “العدل تُحْفظ به العمارة فالظُّلم يخلُّ بحفظها”، و”عليْنا أن ننزع الظلم عن النَّاس؛ كي لا تخْرب الأمصار وتكسد أسواق العمران، وتقفر الديار”.
* كاتب وأكاديمي مغربي مقيم في فرنسا
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)