التنظيم السروري: الحاكمية وجاهلية المجتمعات
يُمركز تنظيم السرورية، وهو إخواني مطعم بالسلفية، عدداً من الأفكار الأساسية في خطابه الذي يتبناه ويروِّجه، تقع فكرة "الحاكمية" بالنسبة للحكومات، وفكرة "الجاهلية" بالنسبة للمجتمعات في صميمه، وهما فكرتان غرسهما سيد قطب في تفكير حركات "الإسلام السياسي" بشكل عام. غير أن السرورية تضيف إليهما فكرة "الولاء والبراء" ذات المصدر الوهابي، التي أصدر فيها السروريون عدداً من الرسائل والكتب والمقالات والفتاوى، وبعض تلك الرسائل أشرف عليها محمد قطب بنفسه.
وتستخدم السرورية عدداً من الأفكار المساندة مثل "استعلاء المؤمن" و"العزلة الشعورية" و"فقه الواقع" و"مفهوم المفاصلة" و"مفهوم الموازنة" في الحكم على الرجال والأشخاص والكتب والأفكار.
يضيف التنظيم إلى هذه الأفكار موقفاً فكرياً متشدداً تجاه من يسمّون تراثياً لدى الحنابلة بـ"أهل البدع" كالشيعة والصوفية، فضلاً عن محاولة اكتساب الشرعية الدينية والسياسية والاجتماعية، من خلال الهجوم على الأفكار العلمانية والليبرالية ورموزهما في السعودية والخليج والوطن العربي.
الحكومات والمجتمعات
وفيما يتعلق بعلاقة السرورية بما حولها، من حكومات ومجتمعات وجماعات إسلامية أو غير إسلامية، فإن التنظيم قد حسم خياره مع الحكومات، ويعتبر جميع الحكومات المعاصرة حكومات جاهلية كافرة. ويسعى لاستئناف "الخلافة الإسلامية" من جديد. فبعد سقوط الخلافة العثمانية انتقل التاريخ إلى الجماعة الإسلامية كما هو التعبير "الإخواني" المعروف، وأصبحت قيادات الأمة هي قيادات الجماعة، وقد صرح عدد من رموز التيار بهذا الموقف من الحكومات في أكثر من شريط ومحاضرة وفتوى، لا يساعد ضيق المجال على إيرادها واحدة واحدة، لكنها أشهر من أن يدلل عليها بنقل أو نقلين.
أما موقف التنظيم من المجتمعات، فهو أنه يعتبرها مجتمعات جاهلية غارقة في الانحراف والضياع عن جادّة الإسلام، وعلى قيادات التنظيم وأتباعه واجب مقدّس، يكمن في انتشال المجتمعات من هذا الانحراف، ووضعها على قضبان النجاة التي يمثّلها التنظيم. ولذلك يُمركز التنظيم في خطابه مفهومين أساسيين هما: مفهوم "الدعوة إلى الله" ومفهوم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، الأول: لضمان ضم المزيد من الأتباع بشكل دائم، والثاني: للهجوم على الأفكار أو الممارسات أو التيارات أو الأشخاص الذين يرونهم مخالفين لمنهج التنظيم.
أما غير الإسلاميين – مع التحفظ على التسمية- فالتنظيم يشن عليهم حملة شعواء بحثاً عن الشرعية الدينية واستقطاباً للأنصار كما حدث في معركة التنظيم مع غازي القصيبي، أثناء أزمة الخليج الثانية (1990 – 1991)، من خلال بعض رموزه الدعوية. ومعاركهم وحملاتهم التي يشنونها كل فترة على بعض الكتّاب والمثقفين دليل على استمرار استخدامهم لهذه الطريقة، وما معركتهم مع المفكر السعودي تركي الحمد عنّا ببعيد.
الجماعات الإسلاميّة
تباينت علاقة التنظيم بالجماعات الإسلامية الأخرى الموجودة في الساحة، والمنتسبة لأهل السنّة والجماعة، من جماعة إلى أخرى. ذلك حسب موافقتها ومخالفتها لأفكار تيار السروريّة، أو تهديدها لنفوذه وسيطرته، مثل: الوهابية الرسمية التقليدية، والجامية، والسلفية الجهادية، وجماعات التكفير، وأخيراً "الإخوان المسلمون".
فيما يتعلق بالوهابية الرسمية، فقد اتبع التنظيم استراتيجية تقضي بعدم التصادم مع المؤسسة الرسمية التي تمثلها، ومحاولة احتوائها أو على الأقل تحييدها. وقد اقتفى التنظيم في ذلك منهج "الإخوان المسلمين" الذي اتبعوه مع المؤسسة الرسمية المصرية "الأزهر"، وذلك التطبيق الفرعي الذي انتهجه "الإخوان المسلمون" أول مقدمهم للسعودية.
وهذه الآلية في الاحتواء وصلت من جماعات الإسلام السياسي إلى جماعات العنف الديني، حسب ما ذكره منتصر الزيات في سيرته الذاتية.
لقد حاول التنظيم السروري التقرّب من الرموز الكبيرة في المؤسسة التقليدية، كالشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين. والمتابع لنتاج السرورية في أشرطة الكاسيت خلال فترة التسعينيات، يتذكر كيف أنهم كانوا يرفضون الفتوى في مسائل الفقه التقليدية: الصلاة والصوم والطلاق والنكاح ونحوها من المسائل، بل يحيلون الفتوى فيها إلى هيئة كبار العلماء، خطْباً لودّها وودّ رموزها، وسعياً لتحييدهم حتى يتسنى للتنظيم القيام بـ"الدعوة" وممارسة "فقه الواقع"، ويعني فقه الواقع الحديث في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي والإعلامي. بمعنى أنهم يمسكون عبر ممارسة هذا الفقه بزمام المجتمع، بينما يلغون دور المؤسسة التقليدية عن طريق حصر عملها الأساس في شؤون الفتيا فحسب.
وبعد تفاقم الخلاف مع المؤسسة الرسمية التقليدية، أخذ التنظيم يلعب لعبة جديدة، عن طريق خلق رموز جديدة، تكون تقليدية من جهة وطاعنة في السن من جهة أخرى، وذلك لمواجهة تحدّي رموز المؤسسة الدينية الرسمية، الذين كانوا طاعنين في السنّ. ويتم هذا الخلق – عادة – عن طريق زيادة شعبيّة الرموز الجديدة وتوجيه دفّة الشباب المتديّن إلى الأخذ عنها.
وكان من هؤلاء الرموز الشيخ حْمود العقلاء الشعيبي، وهو واحدٌ من الذين أبرزتهم السرورية لمواجهة العلماء التقليديين إبّان الغزو العراقي للكويت، بحكم أنه أكبر سناً من بعضهم، ودرّس بعضهم في الجامعة، وممَّن درس عليه الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى. وقد انقلب حمود العقلاء في ما بعد على التنظيم، ليصبح أباً روحياً لتيار السلفية الجهادية بقيادة: ناصر الفهد وعلي الخضير وأحمد الخالدي. ولاحقاً أصبح حمود العقلاء أباً روحياً لـ"تنظيم القاعدة بجزيرة العرب"، وظلّ على هذه الحال حتى وفاته قبل سنوات وقد رثاه عدد من قيادات "القاعدة" منهم ابن لادن والظواهري وغيرهما. وثمة نماذج أخرى للعلماء كبار السنّ الذين أعادت السرورية إنتاجهم وترميزهم للهدف نفسه.
أما بالنسبة لـ"الجامية" التي ناصبت التنظيم العداء، فقد كان موقف التنظيم منها في البداية هو التجاهل ومحاولة الاحتماء بالمؤسسة الرسمية وكبار العلماء. ولكن العداء كان شرساً، وهجوم الجامية كان ضارياً ومتواصلاً. وقد أثّرت الجامية في زيادة جرعات التشدد العقائدي في خطاب السروريّة ومواقفه، نظراً لأن الجامية -وهي تيار منسوب للشيخ محمد أمان الجامي، ومن رموزه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي- كان خطابها خطاباً شديد الانغلاق والتشدّد تجاه المخالف مهما كانت درجة مخالفته. وكانت الفكرتان المركزيتان في طرح الجامية هما: الولاء التام للقيادة السياسية وتأكيد ذلك دينياً وعقدياً وتراثياً، مع البراءة من كل مخالف. وهي فرقة تكاد تنقرض الآن بسبب تخلّي السياسي عنها بعد استنفاد أغراضها. ولأن الخطابات المنغلقة تعود دائماً لتأكل نفسها، فقد عاد الجامية ليحاربوا بعضهم بعضاً. وحروب ربيع المدخلي مع محمود الحداد أو مع فالح الحربي أو مع أبي الحسن المأربي دليل ظاهرعلى هذا.