التوثيق والصدق في مواجهة البروباغندا وفبركة الأخبار …سحر خاص أحاط «القسّام» منذ عملية «طوفان الأقصى». عمليات إنزال، إرباك أجهزة الرصد الإسرائيلية، العبور، اختطاف المستوطنين، تدمير جبروت الإسرائيليين، وقع كلمات أبو عبيدة المصوّرة، إعادة الاهتمام العالمي إلى القضية الفلسطينية، وليس آخرها التوثيق.
بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي:
9 تشرين الأول: استهدفنا 500 موقع إستراتيجي لحماس والجهاد في الليل.
25 تشرين الأول: استهدفنا الليلة حواجز لحماس تصعّب على السكان الإخلاء نحو الجنوب.
28 تشرين الأول: استهدفنا مواقع عسكرية لحزب الله الليلة الماضية.
1 تشرين الثاني: قصفنا 11 ألف هدف لحماس في قطاع غزة منذ بدء الحرب.
6 تشرين الثاني: قصفنا 450 هدفاً لحماس وسيطرنا على مجمع عسكري في غزة.
12 تشرين الثاني: استهدفنا مواقع لحزب الله جنوب لبنان عقب إطلاق رشقات صاروخية.
بيانات القسام:
7 تشرين الأول: تبث كتائب القسام مشاهد حصرية لسرب «صقر»، إحدى الوحدات العسكرية التي شاركت في عملية «طوفان الأقصى» داخل أراضينا المحتلة.
2 تشرين الثاني: فيديو عملية تدمير دبابة من المسافة صفر.
4 تشرين الثاني: أبو عبيدة: وثقنا تدمير 24 آلية عسكرية إسرائيلية خلال 48 ساعة.
4 تشرين الثاني: فيديو تدمير آليات من المسافة صفر.
8 تشرين الثاني: أبو عبيدة: وثقنا تدمير 136 آلية عسكرية إسرائيلية.
11 تشرين الثاني: أبو عبيدة: وثقنا تدمير أكثر من 160 آلية عسكرية صهيونية.
التوثيق والصدق في مواجهة البروباغندا وفبركة الأخبار
تعود كلمة التوثيق و الصدق في المعجم إلى فعل وَثِقَ، والمفعول موثوقٌ فيه. وثُق الشَّيءُ قوِيَ وثبت وصار مُحكماً. وثَّق الأمرَ: أحكمه، قوّاه وثبّته وأكّده. وثّق المعلومات: جدَّد أصلها وتأكَّد من صحّتها. وثَّق الموضوعَ: دعَّمه بالدَّليل وأثبت صحّته.
بين بيانات «استهداف» وإعلان «توثيق»، حرب إعلامية جديدة، وضعت «القسّام»، وناطقها أبو عبيدة، في موقع الصدق في مقابل بروباغندا صهيونية قائمة على فبركة الأخبار والكذب، استعانت عبرها قوّات العدو بالذكاء الاصطناعي لاختلاق أدلّتها. نجحت المقاومة في فرض مصداقية، وخصوصاً أنّها اتبعت تكتيك التكذيب السريع: تنشر ما وثقته في العمليات قبل انتهاء الحرب، وهذا ما تتجنبه عادةً الجيوش النظامية وحركات المقاومة والمجموعات المسلحة للحفاظ على أمنها وسريتها. تتخطى أهمية التوثيق آنيّة الحرب، لتسهل لاحقاً عملية كتابة تاريخ دقيق لما يحدث اليوم، وتحسم في حال كانت هناك روايات متضاربة، وتثبت الرواية الحقيقية أمام آلة إعلامية ضخمة، وسردية صهيونية تفوّقت على الرواية الفلسطينية بدعم المال والنفوذ والوقت.
بات البحث عن دليل وإثبات ادعاءات الإسرائيليين والإدارة الأميركية ضرورياً لتدعيم سرديّتهم، وخصوصاً أمام الإعلام والرأي العام الغربي. في محاولته الأخيرة، نشر «جيش» الاحتلال فيديو للمتحدث باسمه دانيال هاجري وهو يجول في أرجاء «مستشفى الرنتيسي للأطفال»، محاولاً «إثبات» أنّ «القسام» استخدمته للتخطيط لعملية «طوفان الأقصى» واحتجاز الرهائن الإسرائيليين. مهّد هذا المقطع لعملية اقتحام جيش العدو «مستشفى الشفاء» صباح 11 تشرين الثاني (نوفمبر)، محاولاً عبره تبرير قصف المستشفيات والمدارس وقتل العاملين في مجال الصحة التابعين للأمم المتحدة.
البحث عن إثباتات وصل إلى الإدارة الأميركية، المطالبة، بدورها، بقرائن عما تعلنه حول الحرب على غزة. في مؤتمر صحافي في 14 تشرين الثاني، ظهر مستشار الأمن القومي جيك سوليفان مربكاً، في محاول للإجابة على سؤال أحد الصحافيين عن وجود دليل على أنّ الأسرى عند «حماس» ما زالوا على قيد الحياة، وخصوصاً الأميركيين منهم. قال: «لقد كنا شفافين للغاية بشأن حقيقة أنّ لدينا رؤية محدودة حول مكان وجود الرهائن داخل غزة وحالتهم. وقد قلت بالأمس إن لدينا تسعة أميركيين مفقودين، وواحداً يحمل البطاقة الخضراء، ولا أستطيع أن أنظر في أعينكم وأخبركم كم عدد الرهائن الذين ما زالوا على قيد الحياة».
سبق هذا المؤتمر تسريب مذكرة داخلية معارضة لوزارة الخارجية وقّعها 100 من موظفي الوزارة و«الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، اتهموا فيها الرئيس الأميركي جو بايدن «بنشر معلومات مضللة» حول الحرب على قطاع غزة، واعتبروه «متواطئاً في الإبادة الجماعية».
ليست الحرب الأخيرة على غزة المسرح الوحيد للفبركة والتضليل، والمهيأة لجولات قتل وإبادة واستغلال موارد. في 5 شباط (فبراير) 2003، قدم وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول ملفاً أمام مجلس الأمن عن سلاح دمار شامل في العراق، وخطة أميركية للقضاء على النظام العراقي بهدف «حماية العالم من هذا السلاح». أدى الاحتلال الأميركي للعراق إلى استشهاد اكثر من 200 ألف شخص. ورغم إلقاء باول باللائمة على الاستخبارات الأميركية بشأن المعلومات الخاطئة، قال في لقاء تلفزيوني في 8 أيلول (سبتمبر) 2005 بأنّ هذه الكذبة مؤلمة و«نقطة سوداء، لأنني كنت أنا الذي قدّمتها للعالم أجمع، وقد كان ذلك صعباً، ويبقى حتى اليوم أمراً صعباً». ومرت الجرائم الأميركية في العراق من دون حساب.
لو كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ثيودور ادورنو شاهداً عما يحدث، كان سيسخر حتماً من النقاش حول الأخبار الزائفة، هو الذي اعتبر بأنّها إشكالية في الإعلام، فالصحافي الذي لا يكذب، في أفضل الأحوال، لا يقدّم معلومة كاملة، فيما جميعنا نفهم العالم عبر مواضيع مجزأة وغير مكتملة، لافتاً إلى أنّ الإعلام لا يعزز التفكير النقدي والمقاومة، بل على العكس من ذلك، كل منتج إعلامي لا ينفصل عن الأيديولوجيا المسيطرة، التي هي الإطار القاطع لأفكارنا تشكّل محرك تفسيرنا للأحداث، وبالتالي تقيّد قدرتنا على التفكير. من هنا يمكن تفسير تشبث مؤيّدي إسرائيل بسرديّتها رغم كل التكذيب بوجه دعايتها، لنخلص إلى أنّ عدم فهم ماهية القضية الفلسطينية ورفض اتخاذ موقف، أقله إنسانياً إلى جانب الفلسطينيين، ليس نتيجة قلة معرفة أو جهل، بل هو نتاج قرار وقناعة.
في تفسيره لماهية جوهر الإنسان، يعتبر عالم النفس النمسوي ايريك فروم، أن الإنسانية معارضة للاستبداد. يميّز بين الشخصية الاستبدادية والإنسانية، والأخلاق الاستبدادية والإنسانية، والضمير الاستبدادي والإنساني، وهو تمييز بين الذين يحبون الموت والذين يحبون الحياة. يرى أنّ وحدها غريزة الحياة جزء من الطبيعة البشرية، في حين أنّ غريزة الموت مرض نفسي. بالنسبة إليه، كان هتلر مثالاً متطرفاً للشخصية المحبّة للموت التي تريد «التدمير من أجل التدمير» و«تمزيق الهياكل الحية»، إذ إن الأفراد، الذين حوّلتهم التنشئة الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي والهياكل الاستبدادية إلى أشخاص شديدي الكراهية، «يصبحون الجلادين والإرهابيين، ومن دونهم لا يمكن إنشاء نظام إرهابي».
بررت النازية إجرامها باعتبار أنّ العالم يحكمه ثلاثة أخطار: الجرذان والطاعون واليهود. صوّروا اليهود على أنهم أبناء الغيتو ليسوا من نسيج المجتمع. بُنيت الدعاية النازية بالتلاعب على علم النفس الاجتماعي، إذ يقول مهندس الدعاية النازية جوزيف غوبلز: «لا جدوى من السعي إلى تغيير المثقفين، لأنهم لن يتغيروا أبداً، وهم يستسلمون دائماً للأقوى، ويجب أن تكون الحجج فظة وواضحة وقوية، وأن تخاطب العواطف والغرائز، لا العقل». يومها، كان الحزب النازي يسيطر على الإعلام.
لم يجرؤ أحد على مساءلته. أما اليوم، فيقف الرأي العام، وخصوصاً على مواقع التواصل في وجه آلة الكذب الإسرائيلية، للتدقيق في كلّ خبر يأتي من الأراضي المحتلة. نتيجة ذلك، يستهدف الاحتلال الصحافيين والناشطين في قطاع غزة والضفة الغربية، لإسكات كل من يقف في وجه محبي الموت. يحتاج هذا الإرهاب حكماً إلى آلة تروّج له وتدعمه، تبرّر جرائمه وتنشر أفكاره. انتقل مرض الموت من النازيين إلى الصهاينة، ولبس نتنياهو ثوب هتلر، وها نحن نشاهده يومياً «يقتل ويشرب من دم الفلسطينيين، يرقص فوق الجثث ويشرب نخبهم»*، ويكذب ويكذب ويكذب، كما علّمه غوبلز، على أمل أن يصدقه الناس.
صحيفة الأخبار اللبنانية