
ترددتُ قبل أن أكتب عن المجموعة القصصية الجديدة للكاتب الصديق عبد الله النفاخ الصادرة عن دار توتول بعنوان (التوق إلى الفردوس)، وقد جاء ترددي بعد أن قرأت القصة الأولى التي حملت عنوانا يقول : (لا تتدخل) ، وهي تسرد واقعة جردت مع الراوي(باسم) شاهد فيها طالبة مرمية في الطريق وقد تجمعت الطالبات حولها، وكانت دامية الوجه كأن أحداً ضربها أو كأن سيارة صدمتها. فالقصة رغم جاذبية الحدث إلا أنها تقفز عنه في صيغة النهاية فتتراجع السورية القصصية مقابلة وضع فكرة مسبقة عنوانها: لا تتدخل !
بالنسبة لي ككاتب قصة كنت أتمنى لو أنه كتب عن بائعة اليقطين التي شاهدها في السوق قبل أن تواجهه حادثة الفتاة، أو عن بائع البسكويت الأنيق الذي يستجدي بيع بضاعته بدل استجداء النقود، بدلا من فكرة (لاتتدخل) أي أنه أضاع أكثر من فرصة لفكرة القصصية في التفاصيل قبل أن يصل إلى نهاية قصته الأولى الواهنة !
عفوا صديقي .. انتظر قليلاً، فقد تابعتُ القراءة، واستمعتُ بما تبقى من قصص ، وكان علي أن أحدد رؤيتي عن المجموعة خارج نطاق اللقمة الأولى من المجموعة، فما أن انتهت القصة الأولى حتى فاجأتنا القصة الثانية تحت عنوان (رسول التقنين)، فهي قصة متقنة جميلة في فكرتها وقفلتها، وستحفز القارئ حتما على متابعة قراءة المجموعة، وهي تحكي عن أبي أيوب الذي نطح الباب إثر خلاف مع زوجته حول المصروف، وصادف أن انقطعت الكهرباء في اللحظة نفسها، فظن أن السبب هو تلك (النطحة) الغاضبة على الجدار، لكن الذي حصل أن هذا الرجل استغل انقطاع الكهرباء ليمسك بيد زوجته ويأخذها بحميمية إلى السرير.
وهنا سحر القصة القصيرة التي تجعلك تقف أمام مفاجأة النهاية مقرونة بالتفاصيل والوقائع الأولى التي تؤسس بفعاليتها لاكتمال النص.
يمكن تقسيم قصص المجموعة إلى ثلاثة أنواع ، الأول هو اللغة والأسلوب، وهو الدال على المهارة في الكتابة وحقق متعة القراءة لنا، والثاني هو القصص القصيرة جدا القليلة المعبرة التي جاءت فياقها من دون تصنيف نوعي، والثالث هو القصص العادية التي ربما تصلح لخاطرة ، أو أن تبقى على دفتره الخاص من دون حاجة للنشر.
في القصص القصيرة جدا، يلفت النظر القصص التالية : (قصة مريضة) في فكرتها ونهايتها ، فتاة أحبها شابان ظنت أنهما سيتشاجران من أجلها، فلم يفعلا، وهناك قصة (عازف) في فكرتها ونهايتها ، عازف تتقطع أوتار آلته، فيستمر في الغناء، فإذا الناس يغنون معه لجمال صوته ومعنى غنائه ، وهناك قصة (بيبسي) وتحمل التقاطا فذا عن رمي العلبة لأنها أوحت لمن اشتراها لري ظمأه بأن محتواها يختلط فيه دم أطفال غزة بتراب دمارها في إشارة إلى الدعم الأمريكي..
في النوع الثاني، الذي أسميته (عادياً) نقرأ فيه سرديات لم يمسك بها الكاتب، وكأنه تردد في إبعادها عن النشر، أو كان عليه أن ينشرها كخواطر صحفية مثل (شاشة جوالي، علت شهقتي، موعد عشق، استفتاء..)، ومن هذه النماذج سأعرض قصة (استفتاء) ، فالقصة هنا تقدم لنا شخصية مريضة نفسيا نتيجة الظروف الحياتية التي تؤدي إلى القلق واليأس فالفصام فالانتحار، فالشاب ملحد ، ويوحي لنا الكاتب أن الظروف دفعته إلى الإلحاد، وكل ذلك مهم، ولكن القصة تتجه إلى موضوع آخر، فبطل القصة انتحر، وهي نتيجة واردة في حالات كهذه، لكن الخلاف يجري حول إقامة عزاء له ، فهل يجوز في الفقه إقامة هذا العزاء أم لا ، وتقدم القصة رأيين : الأول يرفض إقامة العزاء لأنه حرام ، والثاني يعزو الإلحاد والانتحار إلى المرض النفسي ، وبالتالي ليس على المريض حرج كما يقال.
والقصة تطرح الموضوع ولاتنتهي إلى حل، فهي تنتظر إجابة على تساؤلات أرسلت إلى مراكز الأبحاث الدينية والفقهاء .
أما النوع الثالث، ويمكن أن يجمع قصصا قصيرة مع قصص قصيرة جدا، فهو الذي يشعر فيه القارئ بحاجة إلى إعادة القراءة ، أو على الأقل الوقوف عند الفكرة بدقيقة تأمل وتفكير، لنقرأ قصة (خبز في خبز) ، وتحكي عن طالبة تتحين انتهاء الفرصة، وعودة الطالبات إلى الصف، لتنفرد بنفسها وتأكل سندويشتها، وقد لاحظت المُدرسة هذا الانفراد ، لتكتشف أن الطالبة فقيرة، وتخجل من زوادتها اليومية، التي تحشو رغيف الخبز برغيف آخر حيث لايمكنها شراء طعام ما تضعه داخل الرغيف مما يجعل الزوادة تليق بها لتأكلها أمام زميلاتها.
هذه الكتابة، وربما يتجه الكاتب عبد الله النفاخ نحوها، هو نوع من الكتابات الاجتماعية التي تصدم القارئ بنهايتها ، وتحفز مشاعره تجاه الموضوع الذي يعالجه..
وهذا النوع نجده في القصة المنشورة تحت عنوان (لم تنسه زاويته) ويمكن أن نطلق عليها قصة دينية، ونتمنى أن يبرز هذا النوع من الكتابات لنتعرف على نوع جدير بالاهتمام غاب عن القصة طويلا رغم كثرة قرائه .
هذه القصة، وأقصد قصة (لم تنسه زاويته)، تحكي عن جنازة يحملها ذووها للصلاة عليها صلاة الجنازة، ويصادف ذلك يوم الجمعة حيث يغص المسجد بالمصلين، ويقوم حاملو التابوت بالبحث عن مكان لوضعه فيه ، فلايجد إلا مكان واحد يبدو بعيدا عن المكان المعتاد، ويحكي لنا الراوي ، أن هذا المكان هو الذي كان يفضل المتوفى أن يجلس فيه عند عزلته الروحية في المسجد أو عند قراءة القرآن .
في قصة (أكبر من عمرها) نموذج آخر من الكتابة نتعرف فيه على شاب يزور عمه في مكتبه، فيتعرف على فتاة اسمها نوال، جميلة ، شابة، شقراء، ومع تكرار الزيارات يقع الشاب في حبها لفترة تزيد عن سنتين، وبعد مرور هذا الوقت تتوفى زوجة عمه، ويقوم عمه بالزواج من هذه الفتاة ، فيتغيب هو عن العرس، إلى أن ينساها بعد سنوات عند الزواج من فتاة أجمل منها ، فيراها وقد أضحت أكبر من عمرها ,
في قصة عيد الحب سخرية مرة من المناسبة ومن كل المحتفلين بها، فثمة شاب وسيم يشتري خمس ألعاب أو هدايا في كل عيد ليهديها لمن يحب، وقد كتب على كل واحدة (لا أحب سواك)، وتنتهي القصة بأن الشاب يأتي إلى البائع محملا بكومة من هدايا عيد الحب قدمت له من الفتيات، ويعرض عليه أن يجد زبائن لها .
على هذا الأساس، يمكننا تصنيف قصص المجموعة الجديدة للكاتب عبد الله النفاخ، كاتب يجيد التقاط أفكار القصص، لكنه لاينتخبها عند الناشر، وهذه التجربة تستحق منا العناية والقراءة والاحترام.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة