الثورات الفاشلة
عقب نجاح عدد من الثورات: ثورة أكتوبر 1917 الروسية، الثورة الصينية عام 1949، الثورة الإيرانية عام 1979، حصلت اضطرابات وتصفيات: الحرب الأهلية الروسية 1917 ــ 1920، الثورة الثقافية الصينية بين 1966 ــ 1969، إبعاد الخميني لكل من شاركه من الماركسيين والليبراليين في الثورة، ولكنها لم تقد إلى فقدان السلطة من يدي صانعي تلك الثورات الثلاث.
لا يمكن القول إن ثورة 1789 الفرنسية كانت ناجحة. ففي عام 1815، عاد آل بوربون إلى السلطة بعد هزيمة نابليون بونابرت في معركة «واترلو»، وهم السلالة الملكية التي قامت الثورة ضد حكمهم المطلق. أسقطتهم ثورة تموز 1830 ولكن من دون تثبيت مبدأ الثورة الفرنسية الرئيسي (إزاحة الحكم الملكي المطلق)، حيث أتت سلالة ملكية جديدة من آل أورليان حكم من خلالها الملك لوي فيليب، بالتعاون مع البرجوازية المالية، بخلاف اعتماد آل بوربون على النبلاء ورجال الكنيسة. توضحت حدود فشل ثورة 1830، حين نشبت ثورة شباط 1848، وأقيمت الجمهورية الثانية بعد إسقاط الملكية، إذ كانت تناقضات ما بعد 24 شباط 1848الفرنسي، ما بين المعسكر الجمهوري، بين اليسار العمالي واليمين البرجوازي، استمراراً لتناقضات روبسبير اليعقوبي ودانتون الجيروندي خلال أعوام 1793 ـ 1794، ثم ما بين أنصار البوربونيين والأورليانيين الملكيين، مؤدية بالنهاية إلى صعود ديكتاتور فرد، هو لوي بونابرت (ابن أخ نابليون)، الذي أنهى ثورة 1848 ــ وهو رئيس الجمهورية ــ من خلال انقلابه على الجمهورية في 2 كانون أول 1851، ونصّب نفسه إمبراطوراً في الذكرى الأولى السنوية للانقلاب.
مهّدت الهزيمة أمام الألمان في معركة سيدان عام 1870، الطريق لإنهاء حكم لوي بونابرت، وقيام «كومونة باريس» بين 18 آذار و28 أيار عام 1871. سُحقت «الكومونة» من خلال القوى العسكرية والمدنية التي اتحدت خلف الملكي القديم تيير، الذي كان رئيس وزراء لوي فيليب. غير أن انتصاره لم يتح له إعادة الملكية، وهو ما ولّد قبولاً من الملكيين القدامى بالجمهورية الثالثة. وعندما قام بعض أنصار عودة الملكية بمحاولة انقلاب في عام 1889 ـ بقيادة الجنرال جورج ارنست بولانجيه ـ من أجل «عودة الملكية»، كان فشلهم طريقاً لترسيخ الجمهورية الديمقراطية ثم العلمانية عام 1905، من خلال فصل الكنيسة عن الدولة. احتاجت ثورة 1789 إلى مئة وستة عشر عاماً لإكمال هدفيها: نزع الملكية المطلقة في السياسة ونزع سلطة الكنيسة عن الحيزين الاجتماعي والثقافي، بعد المرور بثورتين فاشلتين 1830 و1848 وانتفاضة فاشلة عام 1871. وقد كان فشل المعسكر المضاد عام 1889 في تحقيق هدفه بعودة الملكية، مؤدياً لترسيخ الديموقراطية الجمهورية، ما شكل طريقاً إلى العلمنة عبر تحجيم الكنيسة التي كانت دائماً حليف ملوك فرنسا. لم تكن ثورة 1789 ناجحة بحد ذاتها ــ كما ثورات 1917 الروسية البلشفية و1949 الصينية و1979 الإيرانية ــ من حيث ديمومة سلطة القوة الثورية أو تحقيق الأهداف الموضوعة عند اللحظة الثورية. تعتبر الثورة الفرنسية ناجحة، إذا أخذنا بالاعتبار محطات تموز 1830 وشباط 1848 وآذار ــ أيار 1871 وفشل محاولة انقلاب بولانجيه 1889، فيما تصنّف فاشلة، إذا أخذنا محطات «واترلو» 1815 وانقلاب 2 كانون أول 1851 وسحق «كومونة باريس». ويمكن لثورة البرلمان على ملك إنكلترا، تشارلز الأول، بين عامي 1642 ــ 1649، أن توضح المثال الفرنسي بشكل أفضل، إذ قام الحكم الملكي المطلق في انكلترا، من خلال الاستقلال عن كنيسة روما عام 1534، عبر الملك هنري الثامن، الذي صادر ممتلكات الأديرة وجعلها تحت سلطة خزينته، ثم أصبح رئيساً لكنيسة انكلترا (الكنيسة الأنجليكانية)، التي تبنّت طبعة بروتستانتية خاصة. وأتاح إنهاء القوة الاقتصادية للكنيسة التي كانت تملك مناجم الفحم وأملاكاً شاسعة من الأراضي الزراعية، المجال لنمو الرأسمال الخاص في الزراعة، خاصة حين باع تشارلز الأول ووالده جيمس (1603 ـ 1625) الأراضي إلى الأثرياء الجدد من تجار لندن وجنوبها وشرقها، الذين اغتنوا بعد تسيّد إنكلترا للبحار، عقب هزيمة الإسبان في معركة «الأرمادا» عام 1588. كان هؤلاء التجار في البرلمان، ودخلوا في نزاع مع تشارلز الأول حول السلطة: البرلمان أو الملك؟ وأخذت ثورة البرلمان شكل الحرب الأهلية، إذ وقف مع الملك الطبقات العليا والشمال والغرب ضد تجار لندن، ومدن صناعة المنسوجات في بيرمنغهام ومانشستر، والمقاطعات الساحلية الشرقية، وجنود الأسطول.
عقائدياً، وقف الأنجليكانيون مع الملك ضد البيوريتان (الذين هم أيضاً من البروتستانت). انتصر البرلمان على الملك وتم قطع رأس الأخير. ألغيت الملكية وأقيم «مجلس الدولة». وقادت التناقضات بين البيوريتان ـ أغلبهم تجار ـ والجيش بقيادة أوليفر كرومويل ـ أغلب جيشه من المقاطعات الشرقية ـ إلى حلّ البرلمان عام 1653، وتنصيب كرومويل لنفسه حاكماً فرداً (اللورد الحامي). ولفرض الحكم العسكري كان كرومويل أكثر تسامحاً تجاه البروتستانت الآخرين من البيوريتان المتشددين الذين كانوا ضد ديكتاتوريته العسكرية وحكمه الفردي وحلّه للبرلمان. وكان الازدهار الاقتصادي مانعاً من فشل حكم كرومويل، ولكن بعد موته عام 1658، لم يستطع ابنه الاستمرار، بحكم التناقض مع البيوريتان.
كان صراع المنتصرين وانشقاقهم بين الجيش والبرلمان، مؤدياً إلى عودة الملكية عام 1660، وفشل ثورة 1642 ـ1649.
كان الابن الأول للملك تشارلز الأول، تشارلز الثاني، معتدلاً ومدركاً للتغيرات، ومنتبهاً إلى أن عودة الملكية لا تعني الاستمرار في سياسة أبيه، على عكس شقيقه، جيمس الثاني، فمنذ توليه الحكم عام 1685، تحمل الانكليز اعتناقه للكاثوليكية وتخليه عن البروتستانتية الأنجليكانية، ولكن عندما حاول نزع ابنته البروتستانتية عن ولاية العرش، بعد ولادة صبي له عام 1688، اتّحد متخاصمو ثورة 1642 ــ 1649، ضده، لتقوم ثورة 11 كانون أول 1688 ــ 13 شباط 1689، وتؤكد مبدأ «سلطة البرلمان وأن الملك يملك ولا يحكم».
كانت قوة الثورة ضد جيمس الثاني، متأتية بشكل رئيسي من تبعيته لفرنسا ـ كان لاجئاً فيها مع شقيقه عقب إعدام والدهما ـ التي بدأ ملكها لويس الرابع عشر في 1685 بطرد البروتستانت الفرنسيين (الهوغنوت باتجاه سويسرا وجنوب انكترا)، لذلك أدّت كاثوليكية جيمس الثاني ومحاولته إنشاء سلالة ملكية كاثوليكية، إلى اجتماع العاملين الديني والوطني ضد ملك فرنسا، المنافس الكاثوليكي لإنكلترا، على النفوذ العالمي، ومضطهد البروتستانت، ووحدت الأنجليكان والبيوريتان ضد الملك الإنكليزي «المتكثلك»، الذي كان يتحدث بالفرنسية داخل قصره في لندن، ولكي يؤكدوا «انتصار البرلمان على الملك». قادت ثورة 1688 ــ 1689، ليس فقط إلى البرلمانية والملكية الدستورية بل إلى تأكيد التسامح بين الطوائف البروتستانتية الإنكليزية، التي أغرقت بحربها البينية إنكلترا في الدماء، خلال أعوام 1642 ــ 1649، ولكن من دون أن يشمل هذا التسامح الكاثوليك في إنكلترا وإيرلندا التي أخضعها كرومويل لسلطة لندن في عام 1649.
هنا، يمكن القول بأن ثورة 1688 ــ 1689، ناجحة من حيث ديمومة سلطة البرلمان المنبثقة عنها وتحديدها مساراً تخطى الثلاثة قرون من الزمن، وبهذا المقياس تعتبر ثورة 1642 ــ 1649، فاشلة أو «غير ناجحة». فبرغم أنها زرعت بذرة وخطَت مساراً نحو «حكم البرلمان»، لم يكن لهذا أن يتحقق بشكل أسرع من مسار 1789 ــ 1889 الفرنسي، لولا أخطاء جيمس الثاني واستثارته الحمية البروتستانتية الانكليزية الجامعة، بسبب تبعيته للملك الفرنسي المتحالف مع الكنيسة الكاثوليكية والمضطهد للبروتستانت. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار ثورة 1905 الروسية فاشلة، من حيث تباعد العمال والفلاحين، والماركسيين والليبراليين، واقتراب الصناعيين والمصرفيين من الحكم القيصري، وعدم قدرة الثورة على كسب الجيش. اهتز الحكم القيصري، ولكنه عندما انتصر، عاد أقوى من قبل، ولولا الحرب العالمية الأولى وهزائمه فيها، لما كان ممكناً أن تنشب ثورة شباط 1917، التي نجحت في إسقاطه، ولكنها لم تنجح في تثبيت سلطة المنتصرين فيها واتحادهم، وهم الليبراليون (حزب الكاديت) والاتجاه الفلاحي (الاشتراكيون الثوريون) والماركسيون (البلاشفة والمناشفة).
نجاح لينين، أتى من خلال مصعدي «السلم والأرض»، للوصول إلى إسقاط حكومة سلطة ما بعد ثورة شباط، وتخطيها عبر ثورة أكتوبر 1917. وفيما كانت ديمومة سلطة ثورة أكتوبر1917 لأربعة وسبعين عاماً مؤشراً على نجاحها في تحقيق مهام رسملة وتحديث روسيا، كان انهيار سلطة الحزب الشيوعي السوفياتي عام 1991 دليلاً على فشل تلك الثورة في تحقيق «مهام الثورة الاشتراكية»، وهو أمر لم يتخطَّ سؤال لينين عام 1923 في مقاله «حول ثورتنا»، رداً على المنشفي سوخانوف: «إذا ما جابه شعب وضعاً ثورياً، كالوضع الذي تبدى لدن الحرب الإمبريالية الأولى، أليس بوسع هذا الشعب أن يندفع، تحت طائلة حالة لا مخرج منها، إلى خوض نضال يوفر له ولو بعض الأمل بالظفر بشروط غير مألوفة تماماً من أجل تطوير مدنيته؟».
في «الربيع العربي»، لا يمكن إطلاق صفة ثورة سوى على ما جرى في تونس ومصر، بينما في البلدان الثلاثة الأخرى: اليمن وليبيا وسوريا كان هناك «حراك». ففي مصر، فشلت الثورة بحكم أن هدفها في إقامة حكم ديموقراطي وغير ديكتاتوري لم يتحقق. أما في تونس، نجحت الثورة بإقامة نظام ديموقراطي مستقر وذي ديمومة، وعلى الأرجح يعود هذا إلى التسوية التي تمت بين «قوى الثورة» و«بقايا النظام القديم».
صحيفة الأخبار اللبنانية