«الثورة السورية».. ربطةُ عنق ومصير

منذ العام ٬2012 أخذت الأحداث في سوريا تسير في خطين متوازيَيْن. واحد على الأرض٬ وآخر كان عبارة عن سردية يقدمها أطراف النزاع السوري وداعموهم٬ بقصد التسويق للفريق المحارب وإثارة جمهوره في ما يتصل بالممكن والمُتوقع من الأحداث.

مذّاك أصرّ كثير من المعارضين على إغفال ظواهر متطرفة آخذة بالتورم في الميدان. ظن معظم أعضاء «المجلس الوطني لقوى الثورة والمعارضة» أن ربطات العنق التي يلبسونها كافية لجعل صورة الأحداث أكثر وردية٬ بنظر «العالم» أولاً٬ وبالنسبة لكلّ سوري متطلع إلى شام أفضل٬ وكل عربي أو إنسان يتعاطف مع هذا التطلع. وتأرجح كثير منهم ومن أمثالهم بين اعتبار جماعات السلفية الجهادية كـ «جبهة النصرة» وأقرانها صنيعة النظام٬ وبين امتداحها بوصفها من بَنات الثورة الأصيلة وبُناتها.

لا حاجة لسرد تصريحات برهان غليون وجورج صبرا ومن بينهما أو بعدهما٬ في الإعلام الفضائي أو الافتراضي٬ لتأكيد هذا التلاعب. فالأرشيف زاخر بالبيانات المكتوبة والمتلفزة٬ التي استسهلت ربط الأعناق ومصيرها بحاملي السواطير. ظنّ كثير من حليقي الذقن أن لا حاجة لـ «مانيفستو» ثورة ولا مَن يحزنون، وأن الحقد المُبرَر على النظام يكفي لتشكيل قوة دفع هائلة تهز أركانه وتحيله ركاماً. أما الدولة السورية فيمكن إعادة بنائها. وأما نسيج المجتمع فبالإمكان حياكته خيطاً خيطاً. وأما القوى المقاتلة على الأرض التي تريد أن تحقق «ثورة» على مسار التاريخ بأثر رجعي٬ فيمكن لجمُها. ألم يكن النموذج الليبي شاهداً على «النجاح»٬ فيما النموذج العراقي قبله أكثر «نجاحاً»؟

في ارتباك وفد المعارضة السورية وضعفه في مفاوضات «جنيف الثالثة» اليوم ما كان يمكن أن يُقرأ منذ زمن. فقدت «الثورة» تعريفها حين أصبح جانب منها خاضعاً لدولة لها رِجلٌ في «الناتو» وأخرى في المشرق٬ فيما زعيمها الذي يحلم باستعادة حلب والموصل اللتين سُلبتا من سلطنة العثمانيين قبل مئة عام٬ يرعى «جيش فتح» أخذ «يُحرّر» منطقة تلو أخرى٬ ويجعل من لبس الخمار فيها رأس أولوياته. فقدت تعريفها كذلك حين دعم جانباً آخر منها نظامٌ ما زالت بعض جامعاته الرسمية تخرّج طلاباً بشهادات عليا يتمحور موضوعها حول «السيف الباتر في قطع رقاب الكوافر». فقدت هذا التعريف أيضاً حين أضحى نجومها باعة إعلام ومهرِّجين ومرتزقة (بالمعنى التقني والحرفي للكلمة)، يفوح منهم خطاب كراهية مقيت٬ كل لحساباته الخاصة.

اليوم٬ تقدّم المعارضة السورية المرعية إقليمياً ما لديها. تكشف عن وجه لا يشبه ما قامت من أجله أولى التظاهرات٬ وهذا متوقع٬ بالضبط لأنها مرعية من هذا الإقليم: رياض حجاب٬ رئيس الوزراء السوري المنشق الذي كُلف بقمع الاحتجاجات٬ هو رئيس الهيئة العليا للمفاوضات. ومحمد علوش الذي ينتمي إلى فصيل «جيش الإسلام» سيئ السمعة٬ بات كبير المفاوضين و «وجه الثورة المعتدل». أما «داعش» التي ظنها البعض مزحة سمجة٬ فظلت مسخاً خارج المفاوضات٬ لكن أكثر حقيقة ممن هم داخلها. وأما «النصرة» التي اشتُغِل على تلميعها، فآثرت الوفاء لـ «القاعدة». وأما «أحرار الشام»، فما زالت قيد التجميل…

برغم كل ذلك، فإن شعارات «الحراك» الأولى لا يمكن أن تموت. فقد وُلدت بمعزل عن كل هذا القيح. ولنموها مسارات مستقبلية أخرى أكثر إنصافاً لها.. ولعموم أهل سوريا.

صحيفة السفي اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى