الجذور الفكريّة للنزعات المُحافِظة
من السهل على أيّ مراقب للحركة السياسيّة في المجتمعات الغربيّة، وربما في مجتمعات العالَم قاطبة، أن يلاحظ كيف أنّ الحراك السياسيّ الكبير الذي شهده العالَم خلال العقدَين الماضيَين، وما يزال يشهده، لا يولِّد تقدّماً نحو سياسة أكثر تعدّدية، بقدر ما يولِّد انفتاحاً أكبر نحو التيّارات المُحافظة المتشدّدة، التي تُعاود النظر في قضايا الهويّة والعرق والسلالة، وتُدخِل نظام حداثة العالَم في مأزق سياسيّ جديد، كان قد جاوزه منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. فالمشهد السياسيّ يُطلعنا كلّ يوم على الجديد من تصرّفات وتصريحات تُنبئ بأنّ القادِم في عالَم الغد سوف لا يكون الوعد بالتعدّدية الخلّاقة التي أعلنت عنها اليونسكو في العام 1995 (من خلال التقرير الضخم الذي أصدرته تحت عنوان “التنوّع البشريّ الخلّاق”)، بقدر ما سيكون مزيداً من التشدّد والمُحافَظة وما يترتّب عنهما من عمليّات للاستبعاد والتهميش وربّما الاستعمار من جديد. ويدعونا كلّ ذلك إلى أن نتأمّل هذا المشهد على خلفيّة الجذور الفكريّة والبنائيّة التي ولّدته.
لا شكّ أنّ التيّار المُحافظ يشكّل أحد التيّارات الرئيسة في الفكر الغربي منذ قيام الثورة الفرنسية. ولقد كانت ردود فعل بعض الفلاسفة إزاء أحداث الثورة وما أدّت إليه من تغيّرات، ردوداً كاشفة عن موقفٍ محافظ ومتزمّت، بل متشائم إزاء الثورة وأحداثها. ولقد تجلّى هذا الموقف بشكلٍ واضح في كتابات الفيلسوف الإنكليزي المُحافظ إدموند بيرك (1729- 1797)، والفيلسوفَين الفرنسيَّين لويس دي بونالد (1754- 1840) وجوزيف دي ميستر (1754- 1821). لقد اعتقد هؤلاء جميعاً أنّ الثورة حطّمت القيَم التقليدية الجمعية وأدخلت نُظماً تقوم على المصلحة الشخصية والمنفعة والتعاقد. لقد حطّمت الثورة التكوين العضوي للمجتمع، وباعدت بين السلطة السياسية وعادات المجتمع وتراثه، وأحدثت صُوراً عديدة من الفوضى.
لقد استمرّ هذا التيّار المُحافِظ قويّاً داخل الفكر، وبدأ في تكوين أواصر قويّة مع عالَم السياسة؛ حيث اتّجه الفكر المُحافِظ إلى التنبيه على مكامن الخطر، والدعوة إلى القوّة والتخلّي عن الأخلاق التي اعتقد المحافظون الأوائل أنّ الثورة الفرنسية حطَّمتها. لقد انطلق الفكر المُحافِظ من أُسس ماكيافيليّة، وكان ِكتاب “الأمير” لماكيافيلّلي (1469- 1527) أحد المصادر الأساسية لمثل هذا الفكر. وعندما يُذكر هذا الاتّجاه في الفكر الغربي المُحافظ، يظهر مباشرة مذهب ليو شتراوس (1899- 1973) الذي صاغه في النصف الأوّل من القرن العشرين.
لقد كان شتراوس يؤمن إيماناً راسخاً بالتداخل بين السياسة والفلسفة، أو بين الفكر والعمل، وبضرورة تسخير الفلسفة لخدمة السياسة. وأكّد على أنّ السياسة لا يجب أن تتأسَّس على الأخلاق الفاضلة، بل يجب أن تميل إلى تحقيق الاستقرار بأيّ وسيلة كانت حتّى وإن اعتمدت على الكذب والخداع واستخدام الحروب، وأنّ الديمقراطية لا يُمكن أن تنتصر إلّا إذا حاربت الطغيان في أيّ مكان وبأيّ وسيلة.
إنّ هذا الفكر، الذي ازدهر على أصداء الحرب النازية والفاشية، وعلى الرّغم من انتهاء الحرب والقضاء تماماً على النازية والفاشية، قد فتح الطريق نحو تجسيداتٍ مُحافِظة في عالَم السياسة، بل إنّه وجد دعماً من مفكّرين آخرين من أشهرهم إيرفنج كريستول (1920- 2009) صاحب مفهوم المُحافظين الجدد، تمييزاً لهم عن المُحافظين التقليديّين في أميركا، والذين كان يمثّلهم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون (الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتّحدة الأمريكية في الفترة من 1913 إلى 1921). ولقد كان فكر كريستول هو الذي مهَّد لظهور المُحافظين الجدد في أميركا.
فقد انشغل بنقد اللّيبرالية ونظر إليها على أنّها يوتوبيا مثالية لا علاقة لها بالواقع، وأنّها تؤدّي دائماً إلى الفشل، في مقابل التيّار المُحافِظ الجديد الذي يبتعد عن المثاليّات ويتعامل مع الواقع، ويجعل القوّة أساساً للفعل السياسيّ والتحرّك الدائم والسريع نحو حماية المصالح الأميركية.
لقد شهدت حقبة ما بعد الحرب الباردة فضلاً عن ذلك – وهي الحقبة نفسها التي تطوّرت فيها الأفكار المُحافِظة التي أشرنا إليها– ظهور أفكار جديدة تقدِّم صياغات تتواكب مع التحوّلات السياسية والاجتماعية الحادثة. ويُمكن في هذا الصدد رصد فكرتَين تتعلّقان بالموضوع: الفكرة الأولى ترتبط بما جادل به صموئيل هنتنجتون (1927 – 2008) في العام 1993 عندما أصدر كتابه المُعنوَن بـ “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالَمي”، في أنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة سوف تتشكّل حول الصراعات الثقافية، وفي إطار هذه الفكرة وضع الإسلام من بين المكوّنات الحضارية التي اعتقَد أنّها سوف تُسهم في هذه الصراعات مُستشهداً بما يدور في المجتمعات الإسلامية نفسها من صراع بين الهويّات والمعتقدات الدينية. أمّا الفكرة الثانية فهي فكرة مجتمع المخاطر التي صاغها عالِم الاجتماع الألماني أورليش بيك (1944- 2015) وعالِم الاجتماع الإنكليزي أنطوني جيدنز (المولود في 18/01/1938) في الثمانينيّات، والتي تجسّدت بشكلٍ نظريّ في كتاب أورليش بيك “مجتمع المخاطر” عام 1993.
لقد حوَّلت أفكار صموئيل هنتنجتون الوعي الغربي من التركيز على التفوّق الاقتصادي والعسكري في مواجَهة الشيوعية إلى التركيز على الدَّور الذي تلعبه الثقافة – وبخاصّة الدّين- في تشكيل العالَم المُعاصر؛ والدور الذي يُمكن أن تلعبه المعتقدات الدينية في تفكيك المجتمعات بدلاً من تجميعها كما كان يذهب شتراوس الأب الروحي للمُحافظين. ومن ناحية أخرى عمل مفهوم مجتمع المخاطر على دفع الفكر نحو تطوير أطر جديدة للتغيّر والاختراق.
أطر تكون كفيلة بالتعامل مع متطلّبات مجتمع العَولمة من ناحية، ومجتمع المَخاطر من ناحية أخرى. ليس أدلّ على ذلك من أنّ منظّري مجتمع المخاطر أنفسهم قد أسهموا في تقديم بدائل فكرية جديدة أهمّها نظرية الطريق الثالث، ونظرية الحداثة الانعكاسية: الأولى تطرح أفكاراً حول بديل مختلف للديمقراطية الاشتراكية، والثانية تطرح مفهوم التأمّل الدائم الذي يهدم الأفكار والأطر المستقرّة ليتعامل مع الواقع على نحو عمليّ.
في التغيّرات الرّاهنة
وإذا كانت التيّارات المتشدّدة تستقي خلفيّاتها الفكرية من هذا التراث الفكري الطويل الممتدّ في الثقافة الغربية، فإنّ ثمّة تغيّرات بنائيّة على الأرض هي التي أضافت كلّ هذا الزيت على نار التطرّف والتشدّد والمُحافظة. ولنتأمّل في ما تبقّى من هذة المقالة جانباً من هذه التغيّرات.
لقد تواكبت هذه الأفكار مع تغيّرات اجتماعية وسياسية على الأرض. كانت العَولمة قد اجتاحت العالَم ونثرت غبارها في أرجاء المعمورة كلّها. وتحوّلت المجتمعات كلّها إلى مجتمعات تخبر تدفّقات يومية: تكنولوجية، وفكرية، وإيديولوجية، واتّصالية، واستهلاكية. ولقد كانت للعَولمة قوى تفكيكية عاتية أثَّرت على المجتمعات كلّها. وفي الحقيقة، فإنّ تأثيرها كان كبيراً في أطراف العالَم، ولكنّ المجتمعات الغربية نفسها عانت من هذه الصُّور التفكيكية، وبات الوعي مشغولاً بأمور الاختلافات العرقية والاثنية في كلّ أرجاء المعمورة. ويمكن القول إنّ العَولمة خلقت ضرباً من العراك الثقافي الذي يتسربل بالدّين والعرق والسلالة والإقليم، بحيث أصبح البحث عن الهويّة هو سمت الوجود المعاصر.
وفي الوقت الذي أدّت فيه العَولمة إلى هذه التغيّرات، تعرّضت منظومة القيَم في العالَم كلّه إلى تغيّرات جمّة. فكما أكَّد بحث “القيَم العالميّة” (بدأه إنجلهارت وزملاؤه عام 1981 وما يزال مستمرّاً)، غابت روح الجماعة وتفرّقت بالناس السبل، فتفوّقت القيَم المادّية على القيَم المعنوية، وتفوّقت القيَم الفردية على القيَم الجماعية، واضمحلّت الثقة وقيَم التسامح والحوار. وقد نتج عن هذه التغيّرات تغيّرات أخرى ارتبطت بانتشار حالةٍ من الشكّ وعدم اليقين والهلع الأخلاقي الذي أصبح هو الآخر أحد مظاهر سمت الوجود في العالَم المُعاصِر.
وعلى الضفّة الأخرى من تيّار التغيّرات كان التطرّف ينمو ويقوى لا في المجتمعات الطرفية فحسب، بل في قلب أوروبا وأميركا. ولم يكُن التطرّف مجرّد ميل إيديولوجي وعقدي، بل أدّى إلى صُور من الانخراط السياسي الذي يتّخذ من العنف وسيلة لتحقيق أهدافه، ويتجسّد في صُور إرهابية تعمل على تقويض أركان الدول، وتفكيك أواصر الشعوب المستقرّة. لقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتكشف بجلاء أيضاً عن هذا الوجه المتطرّف، ولتكشف بجلاء أيضاً عن أنّ الصراع لم يعُد صراعاً سياسياً بل أصبح، كما ذهب هنتنجتون، صراعاً ثقافياً وعقدياً.
بل إنّ الحدث قد جسَّد الإحساس بالخطر، وأسهم في خلق مزاجٍ عامّ في المجتمعات الغربية يشي بالعداء للإسلام الذي تجسَّد بعد ذلك في مفهوم الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا). ولم تكُن أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي الأحداث الأكثر دلالة في هذا التحوّل، بل ما لحق بأجزاءٍ من العالَم (بخاصّة أطرافه الهشّة في الوطن العربي) من تفكيك، ومن قتال مرير، لم يكُن قتالاً حول الهويّة فحسب، بل حول السيادة على الأرض أيضاً.
يكاد العالَم المُعاصر – على خلفية هذه المشاهد الدامية والتفكيكية- أن يقف على حافة الهاوية وأن يقع في شراك الفوضى، وهي حالة تجعل الفاعلين (أفراداً ودولاً) أميل إلى التشبّث بالحياة عن طريق دفع الآخرين بعيداً، حتّى وإن استُبيح القتل والاستبعاد.
*أستاذ علم الاجتماع السياسي في كلّية الآداب ـ جامعة القاهرة
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)