الجرطي يقارب الروافد الفكرية والنقدية لإدوارد سعيد

يقدم الباحث والمترجم المغربي د. محمد الجرطي في كتابه الذي قام بإعداده وترجمته” إدوارد سعيد: من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف” الصادر حديثاً عن منشورات المتوسط، مُقاربة شاملة لأهم روافده الفكرية والنقدية الناقد والمفكر العالمي الفلسطيني إدوارد سعيد، ولأبرز ما افترعه من مفاهيم نظرية وإجرائية في الممارسة النقدية، فضلاً عن تسليط الضوء على تنظيراته النفاذة لوظيفة المُثقّف وعلاقته بالسلطة.

ولعلّ هذا الحرص على الاستقصاء والشمولية هو ما نلمسه في طبيعة هذه الدراسات التي اختارَها الباحث، حيثُ قاربَ البعض منها المنحى النقدي في مَسار إدوارد سعيد من خلال التركيز على مُؤلفاته النقدية البارزة كـ “الاستشراق”، و”العالم، النص والناقد”، و”الثقافة والإمبريالية”. في حين ركز البعض الآخر منها على مؤلفاته الفكرية، وتحديداً كتاب “المثقّف والسلطة” الذي حاور من خلاله إدوارد سعيد بعض التنظيرات التي قدّمها كلّ من جوليان بندا وأنطونيو غرامشي لماهية المثقّف ورسالته الفكرية، خالصاً في النهاية إلى ضرورة استقلال صوت المثقّف ورفضه الانتماء السياسي والحزبي، لتكسير كلّ منوالية فكرية ناجزة، أو توجيهات إيديولوجية مُسبقة، وإبقاء قلمه مُجنّداً في الدفاع عن القيم الإنسانية المثلى والمجيدة.

وقد رأى د. الجرطي في سياق حديثه عن الخلفيات الفكرية والنقدية أن “انشغال إدوارد سعيد بقضية المُقاومة شكّل دافِعاً أساسياً لديه للانفتاح على الفلسفة الماركسية، نظراً لما تحرص عليه هذه الأخيرة من ربط للأدب بالمجتمع، وترهين وظيفة المثقّف البناءة بالانغراس في صَميم المشكلات المجتمعية والسياسية التي يجيّش بها الواقع، ومواكبة راهنية أسئلته، واستيعاء اشتراطاته السياقية، إلا أن سعيداً حرص في تشربه لرافد الماركسية على تجاوز نزعتها الجبرية الآلية التي ظلّت تعتبرُ البنية الفوقية نتاجاً مُباشراً للإنتاج الاقتصادي المادي، لأنّ في هذا الطرح تعطيلٌ لفاعلية الأدب في عملية التغيير الاجتماعي، مُستلهماً بذلك طروحات جديدة حاولت ترشيد مسار الماركسية عن طريق تحريرها؛ سواء من الإرث المادي الميكانيكي الذي حفّ بها مع مدّ الواقعية الاشتراكية الروسية، أو الإرث الهيجلي المثالي الذي علق بها مع جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان، والجنوح بها نحو تحليل مَواطن الصراع والتناقض والتعددية التي تمور بها السيرورة الاجتماعية، كما هو الحال مع الفيلسوف والمفكر الإيطالي “أنطونيو غرامشي” الذي تأثر إدوارد سعيد بمفهومه الشهير عن “الهيمنة”، ومفادهُ فضحُ الاستراتيجيات التي تنهجها الدولة في إيهام الطبقات الاجتماعية، خاصة منها المهمّشة، بأنّ مصالحها هي مصالح الجميع، مُستثمرة بذلك قوة ضمنية أكثر نظاماً وشمولية تتجاوز الاقتصاد وأجهزة الدولة المباشرة؛ هي قوة التعليم والإعلام.

كما استلهم إدوارد سعيد من أنطونيو غرامشي تنظيراته النّفاذة لعلاقة المُثقفين بالسلطة، وتمييزه بين صنفين منهما: “المثقف التقليدي” أو المُنسّق الذي تقفُ مهمّته عند حدود إرساء دعائم النظام القائم، وتثبيت مَصالحه السياسية والإيديولوجية، والمثقف العضوي الذي احتفى به إدوارد سعيد احتفاءً بالغاً لتدثر جهوده بنزعة ثورية تنشدُ الالتحام بهموم الطبقة الاجتماعية الصاعدة، ومساعدتها على ترسيخ قيمها الإيجابية الواعدة”.

وأوضح د. الجرطي أنه بالاضافة لهذه المؤثرات الفكرية السابقة التي انجدلَت داخل خطاب ما بعد الكونونيالية عند إدوارد سعيد هناك رافدٌ مَعرفي ونقدي آخر أكثر أهمية وخُطورة، ويتجلّى في تيار “التفكيكية” الذي اجترحَهُ الفيلسوف والناقد الفرنسي “جاك دريدا”، وشكّل أبرزَ التحولات الفارقة للنظرية الأدبية الحديثة بعد انحسار مدّ البنيوية مُنذ مُنتصف الستينيات من القرن العشرين، وبالرغم من اختلافِ الأهداف النقدية التي ينشدُها جاك دريدا، وإدوارد سعيد من تأويلهما للنصوص تساوقاً مع تباين مَرجعياتهما الفكرية، حيث يتعاملُ دريدا مع النصوص باعتبارها حاملة لفجوات ثرّة من التدليل، ومواطن الاختلاف، مفسحة بذلك المجال أمام الدوال لمُراوحة مدلولاتها، ممّا يترتّبُ عنه الإرجاء الدائب للدلالة، ومراوغتها اللامتناهية للقارئ، وحيث يحرصُ إدوارد سعيد بالمقابل على ربط النصوص بمحاضنها التاريخية، مشدّداً على التحافها بمرجعيات مُتجذّرة في عوالمها الدنيوية.

بالرغم إذن من تباين هذه الأهداف النقدية عند إدوارد سعيد وجاك دريدا، إلّا أن تأثير مُؤسس التفكيكية في خطاب ما بعد الكولونيالية عند المفكّر الفلسطيني الأصل، يتجلّى في تنبهه إلى ما ينسرب داخل النصوص من بنيات مُختلفة تتأبى معها كلّ القراءات التي تحاول تنميطها في بنية مركزية واحدة، وهو الأمر الذي مكّن إدوارد سعيد من إعادة قراءة النصوص الأدبية الأوروبية قراءات جديدة تنزاحُ بها عن قراءات النقاد الغربيين، التي ظلّت مركزية ومُعتمدة، وتكشفُ عما تتبطن به من صور نمطية جاهزة عن الشرق مَمهورة بكلّ صُنوف التحقير؛ لإضفاء الشرعية على الإمبريالية، وتبرير سيطرتها، ومنح تدخلها في الشرق طابعاً تنويرياً حضارياً.

وفي تناوله للنقد ما بعد الكولونيالي عند إدوارد سعيد، مفاهيمه النظرية والإجرائية، أكد د. الجرطي أن مفهوم “التمثيل” يعد في طليعة المفاهيم التي اجترحها إدوارد سعيد منذ كتابه الشهير “الاستشراق” هادفاً بواسطته إلى إبراز كيفية حُضور الشرق في الكتابات الغربية باختلاف صُنوفها من إبداعية وفكرية، أو في شكل رحلات وتقارير سياسية؛ وهكذا توصّل سعيد، بفضل هذا المفهوم، إلى أنّ الشرق تمّ تمثيلُه وفق الرؤية الغربية، واعتباره فضاءً مُناقضاً للغرب، لأنه إذا كان هذا الأخير يحيل على كلّ القيم الحضارية المجيدة من تقدّم ورقي وعقلانية، فإنّ الشرق يُحرَم من تمثيل نفسه، ويُصادَر حقه في الكلام، لتُرسَم له صور نمطية راسخة، ويُسيّج في قوالب جاهزة قوامها الهمجية والبدائية والتخلّف.

ولذلك، فكلّما جُرِّد الشرق من تاريخيته، واستحالَ إلى بُنى نصية مليئة بالتخييل تتشرّب تقاليد مُتكلّسة من التمثيل الخاطئ، تَسربلَ الغربُ بقناع من الشرعية لاسترقاقه، واستحقّ تدخلُه في الشرق الإشادةَ والتبجيل لأنّه يحمل لأبنائه نور الحضارة، ويعينهم على استيعاب مَظاهر المدنية الحديثة. ويمكن القول بأن إدوارد سعيد في نحته لهذا المفهوم “التمثيل” لإبراز تورّط الثقافة الغربية في خدمة الإمبريالية، كان يستثمرُ ثقافته النقدية العميقة، وتحديداً مَفهوم “التناص” الذي أنتجتهُ النظرية الغربية المُعاصرة.

أما ثاني المفاهيم الذي يُعتبَر العصب الحقيقي لتيار ما بعد الكولونيالية عند إدوارد سعيد، وفقا للباحث الجرطي، فيتجلّى في مفهوم “الدنيوية” الذي يكشفُ بجلاءٍ عن الإبدال الجديد الذي افترعَهُ إدوارد سعيد في مَسار النظرية الأدبية الحديثة، فخِلافاً لاتجاهات ما بعد البنيوية التي غالَت في بتر النصوص عن سياقاتها الخارجية، مُركّزة في التفاعل مع أنساقها التخييلية على اللعب الحرّ للدوال، وما ينتج عنها من إمكانيات تدليلية وافرة، تعتّم المرجعي الكامن خلف بُناها النصية تاركة إياه عائماً ومُنتشراً وسط انزياحات اللغة وألاعيبها اللامَحدودة، شدّد إدوارد سعيد على أن النصوص هي كيانات موجودة في العالم، وحاضنة للأسئلة والقضايا المُعتملة في منابتها التاريخية والمجتمعية، يقول إدوارد سعيد: “أنا لا أؤمن بأنّ المؤلفين يتحدّدون بصورة آلية بالعقائدية (الإيديولوجيا)، أو الطبقة، أو التاريخ الاقتصادي، بيد أن المؤلفين كائنون إلى حدٍّ بَعيد في تاريخ مُجتمعاتهم يشكّلون ويتشكّلون بذلك التاريخ، وبتجربتهم الاجتماعية بدرجات مُتفاوتة. إنّ الثقافة والأشكال الجمالاتية التي تنطوي عليها لتُشتَقُّ من التجربة التاريخية”.

أما آخر المفاهيم التي تستوقف د. الجرطي في خطاب ما بعد الكولونيالية عند إدوارد سعيد، فهو مفهوم “القراءة الطباقية” الذي استقاهُ سعيد من حَقل الموسيقى، وهدفَ بواسطتهِ إلى تَحفيز نقّاد آداب ما بعد الكولونيالية على عدم وقوفهم خلال المُمارسة النقدية التي تُقارب إشكالية الأنا والآخر عند حُدود تعرية النصوص الغربية الكولونيالية، وإبراز ما تتلفع به من أنساق مُضمرة تنشُد تصنيم الشرق في دائرة الانحطاط والدونية، وإنّما ضرورة تجاوز ذلك إلى مُلامسة كيفية انخراط آداب ما بعد الكولونيالية في تشكيل سَرد مُضاد ومُقاوم، يفضَحُ من جهة أساليب الكتابة الغربية المتورّطة في اللاإنسانية والتمييز العنصري، ويعيدُ من جهة ثانية الاعتبار لما هو أصلاني وهامشي ومَحلّي، يقول سعيد: “القراءة الطباقية ينبغي أن تدخل في حِسابها كلتا العمليتين؛ العملية الإمبريالية وعملية المقاومة لها، ويمكنُ أن يتم ذلك بتوسيع قراءتنا للنصوص، لتشملَ ما تمّ ذات يوم إقصاؤه بالقوة”.

وشدد الباحث على التأثير العميق الذي خلفه – ومازال – فكر إدوارد سعيد في مُختلف الثقافات الإنسانية؛ بدءاً من دراسات التابع التي تشكّلَت في الهند بزعامة مَجموعة من المُنظّرين على غرار جياتري سبيفاك ورانجيت جحا وهومي بابا وإقبال أحمد ودبيتش تشاكرابرتي.. واتّجهَت بتأثير من مفاهيم إدوارد سعيد إلى إعادة كتابة التاريخ الثقافي والسياسي للهند كتابة مُغايرة تنزاح به عن مُصادرات الخطاب الاستعماري المُغرقة في التمركُز والتنميطات الناجزة، وذلك بهدف النفاذ إلى صوت الجماعات المهمّشة والمغمورة التي حُرِمَت من تمثيل نفسها في ظلّ هَيمنة المركزية الغربية، وإفساح المجال أمامها لإعادة تبئير السرد بصدد مُعاناتها، وإظهار ما طالها من تبخيس وتصغير واضطهاد في ظلّ تسلُّط الإمبريالية، وهو الأمر الذي ساهمَ في نشوء تمثيل سَردي مُضاد ستمتدُّ إشعاعاتهُ إلى مُختلف الاَداب التي رزحَت طويلاً تحت نير الاستعمار، وتجلّت وظيفتُه الفكرية المُنتجة وشعريتهُ المائزة في تحبيك صورة جديدة للذات تنأى بها عن ضُروب الإقصاء والتهميش والدونية المنزرعة في الخطاب الكولونيالي الغربي، وتنزَعُ بها نحو ارتياد آفاق علاقة جديدة بين الذات والآخر، قوامُها الهجنة والتشابك الإنساني بتعبير إدوارد سعيد، أو الفضاء الثالث المُترَع بالتناسُج الثقافي باصطلاح هومي بابا.

يذكر أن الكتاب جاء في مقدمة وثلاثة فصول، في المقدمة تناول د. الجرطي النقد ما بعد الكولونيالي عند إدوارد سعيد، والخلفيات الفكرية والنقدية، المفاهيم النظرية والإجرائية، وفي الفصل الأول يحلل الأنساق المُضمرة للخطاب الاستشراقي عند سعيد، والنقد العربي للاستشراق في فرنسا والولايات المتحدة أمكنة وأزمنة، والجامعة الأميركية كرهان للمُناظرة والجدل بصدد الاستشراق، كما يتطرق لقضايا مثل الخطاب والخطاب المضاد: فرانز فانون مُتجاوزاً ميشيل فوكو، وتمثيلُ المستعمر، وقضية العنف، والاستشراق، تاريخ لازماني، ومخاطر العقلانية.

ويدرس في الفصل الثاني إدوارد سعيد وفضاء الهجنة والاختلاف، وإدوارد سعيد أو الوعي النقدي، والقضية الفلسطينية، وترسيخ قيم الإنسانية، والإحساس بالاختلاف، والنزعة الإنسانية في منظور إدوارد سعيد.. إلخ، وفي الفصل الثالث يتناول إدوارد سعيد وثقافة المُقاومة، إدوارد سعيد وثقافة المَنفى، إدوارد سعيد، الشّاهدُ المنفي، إدوارد سعيد: المُفكّر الإنساني، إدوارد سعيد أو شروط النقد السياسي، إدوارد سعيد في الدراسات الأدبية الفرنسية، إدوارد سعيد ودروس في إنسانية البحر الأبيض المتوسط، إدوارد سعيد: المُثقّف المُلتزم وغيره.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى