الجميّل ــ مورفي: قصّة جملة قيلت أم لم تُقَل؟
في سيرة ولايته، بين عامي 1982 و1988، يضع كتاب الرئيس أمين الجميّل «الرئاسة المقاوِمة» حدّاً للغز حيال عبارة قيلت في 18 ايلول 1988، عشية أول شغور رئاسي في تاريخ لبنان، ما لبث أن أضحى قاعدة وتقليداً تكرر عامي 2007 و2014، وسيعود الى ابصار النور في الاستحقاق المقبل.
كمَنَ اللغز في عبارة نُسبت إلى مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ريتشارد مورفي مفادها «مخايل ضاهر او الفوضى». نفى مورفي، عندما استضافه «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية» في 12 حزيران 2013، أن يكون يكون قالها. الا ان ما قيل حينذاك، واقعاً او منسوباً اليه، بات عنواناً رئيسياً لكل استحقاق ومرشّح يصطدم بمعارضة، كما لو أن الانتخابات الرئاسية ستقع حتماً بين أحد خيارين: المرشّح أو الفوضى.
في «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية»، بدعوة من السفير عبدالله بوحبيب، قال مورفي: «كان إسم مخايل ضاهر الوحيد الذي ظهر. لم أكن قد التقيت به، واجتمعت به للمرّة الأولى لاحقاً بحوالى خمس سنوات. الملاحظة التي يُزعَم أنني قلتها، ولا أذكر أنني قمت بذلك، أنه إما ضاهر أو الفوضى، بدت مثيرة للشفقة لأنكم مررتم بعامين إضافيين من الفوضى. قال تلك الجملة مسؤول في السفارة دانيال سمبسون في ملخصه، بينما كان يدوّن الوقائع خلال الاجتماعات».
لما قيل له ان البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير يذكر انه سمعها منه مرتين وطنّت في أذنه، أجاب: «لا أظن أنني استعملت كلمة الفوضى. على كل حال، انا لا اجادل البطاركة».
أما الرئيس أمين الجميّل فيروي في سيرته الآتي:
«الأحد 18 أيلول، استقبلت ريتشارد مورفي في الثانية إلا ربعاً بعد الظهر في المقرّ الرئاسي الصيفي في بكفيا يرافقه القائم بأعمال سفارة بلاده في لبنان دانيال سمبسون. إستهللتُ الاجتماع بإبداء تقديري للمبادرة الأميركية، وشكري الرئيس ريغن والوزير شولتز على دعمهما بلدي وإياي شخصياً طوال ولايتي. بعد ذلك طلبتُ منه إطلاعي باختصار على محادثاته في دمشق، فقصَّ عليَّ الآتي: بدأت اجتماعاتي الاربعاء صباحاً (14 أيلول) مع وزير الخارجية فاروق الشرع. اجتمعت أربع مرّات بخدّام، وأمس (17 أيلول) كان الاجتماع الأخير مع الأسد. مجموع هذه اللقاءات 16 ساعة من المناقشات القاسية. تحدّثنا في سبل مقاربة مسألة الانتخابات. قبل عشرة أيام وجّهتُ رسالة (إلى السوريين)، وكنا اتفقنا على أن من الصعب إجراء إصلاح قبل الانتخابات. قلت إن على الانتخابات أن تكون قاطرة الإصلاح لا العكس. الجواب على رسالتي دعوتي إلى زيارة دمشق. ذهبتُ إلى هناك وتوقّعتُ الخوض في الأسماء، لكنهم فوجئوا وقالوا لي إن ليس لديهم سوى مرشّح واحد هو سليمان فرنجيه. قلت لهم إن انتخابه يتسبّب في انقسام البلد، وهو شخص غير آبه بالإصلاح. أجابوني أنه الإسم الوحيد الذي يطرحونه. شدّدتُ على أن الحاجة هي إلى رئيس يجمع البلد في السنوات المقبلة، بينما أصرّوا على أن فرنجيه هو الإسم الوحيد، وأنهم لم يطلبوا منه الترشّح، لكن إذا فعل يدعمونه. اتهمونا بأننا شاركنا في ألاعيب القوات اللبنانية لتعطيل جلسة 18 آب في مجلس النواب، وكانوا غاضبين للغاية من ذلك…».
قاطعتُه: «أريد أن أعرف مَن الغاضب أكثر. هم أم حلفاؤهم في بيروت الذين لا يريدون انتخاب فرنجيه؟».
مورفي: «في الاجتماع الأول تشبّثوا بفرنجيه الإسم الوحيد، وبإجراء إصلاح في السلطة التنفيذية في لبنان، وإلا سيقفون في وجه الانتخابات. أجبتهم أن عدم إجراء الانتخابات سيؤدّي إلى سقوط البلد وحصول تقسيم نهائي. أصررتُ على أن فرنجيه ليس مناسباً، ونحن لن نكون طرفاً في فرضه ولا في فرض الإصلاح بالقوة. لا بدّ من حصول توافق في الانتخابات، ولا يسعنا الإضطلاع بأي دور في حال ظلّ فرنجيه مرشّحاً. قلت لهم إن القوات اللبنانية لا تريده، وكذلك المسلمون. ثمّة عائق كبير امام ترشيحه. أنا لم أطرح عليهم أسماء، لكنني طلبتُ منهم مزيداً من الأسماء، فأجابوا بالاصرار على فرنجيه وحده. تمسّكتُ بالقول إن الانتخابات يجب أن تكون قاطرة للإصلاح. قلت لهم إن تعذّر إجراء الانتخابات سيؤدّي إلى وجود رئيسي وزراء في لبنان وحكومتين، وسينقسم البلد إلى فريقين. عندئذ قال لي خدّام إن عدم إجراء انتخابات يفضي إلى أن تمحض سوريا دعمها الكامل لحكومة الأكثرية، أما الحكومة الأخرى فستُعدّ متمرّدة. سيكون لدى القوى الوطنية القوة لفرض إرادتها. نبذتُ هذه الفكرة، وقلتُ لهم إن مشاكل لبنان لا تُحلّ بالقوة، وثمّة حاجة إلى المصالحة. إذا إستخدمت القوة ستقابلها مقاومة لها. قلت إن مشاورات أجريت في دمشق حول الإصلاح والمشاركة في السلطة وإلغاء الطائفية كان ينبغي أن تستمرّ، لكنها توقفت قبل الوصول إلى أي اتفاق. قلت لخدّام بالتوافق على الرئيس الذي سيُنتخب، أما الإصلاحات فتُناقش لاحقاً. وصلتني إشارات أولية مساء الخميس (15 أيلول) أنهم وافقوا على إسم واحد فقط، وأن الأسد هو مَن سيختاره. لديه (مخايل ضاهر) علاقة طويلة مع الأسد. لم أكن لآتي اليوم لو لم يرسل السوريون إشارات إيجابية. وصلنا معهم إلى موقف نهائي: أن ندرس الحلول اللازمة لمتطلّبات انتخاب مرشّح واحد. نحن ندعم انتخاب مخايل ضاهر، ونعتقد أن الأزمة جدّية إلى حدّ أن البلد قد يكون عرضة للتقسيم إذا لم يُنتخب. لا نقول إن السيّد ضاهر هو الخيار الأفضل، لكن في وسعه توحيد البلد. بالنسبة إلينا، إذا لم تجرِ الانتخابات ستقع الفوضى. لن نتفهّم أي محاولة لعرقلة الانتخابات. سألتُ الأسد عن الحكومة وقلت له إن من الضرورة توسيعها، فأجابني أنه سيصار إلى توسيعها، وكل مَن يدعم المرشّح سيكون له مكان فيها. اضاف أن في بيروت قاعدة أن يشارك فيها المسيحيون والمسلمون بنسبة متساوية وتوازن بينهما. بعد الانتخابات، في الغالب، يجري تأليف حكومة موسّعة. غادرتُ دمشق وفي ذهني تأليف حكومة موسّعة. أما النقطة الأخرى التي اتفقنا عليها، فهي دعم إجراء الانتخابات في 22 أيلول. لن ندعم حكومة إنتقالية. ونأمل في حصول ذلك بلا اي عقبات».
قلت: «بحسب ما فهمت أنكم اتفقتم على نحو كامل مع الطرح السوري، وتدعمونه على نحو كامل. لكن لديّ سؤال: قلتم إن كل مَن ينضم إلى الحكومة يجب أن يدعم أجندة الرئيس الجديد. ما هي هذه الأجندة؟ هل هو الاتفاق الثلاثي؟ هل أن مَن لم يقبل بالاتفاق الثلاثي سيصار إلى إبعاده؟».
ردّ مورفي: «في هذه الحال تكون سوريا تتّبع خطة تقسيمية».
قلت: «نعرف هذا الأمر منذ سنتين. مشروعها هو الاتفاق الثلاثي. السيّد ضاهر هو أحد النواب القليلين الذين انضموا إليه. هل تدعونا بدورك إلى الإنضمام إلى الاتفاق الثلاثي؟ ما هو هذا الاتفاق؟».
قال: «السوريون يعرفون أننا لا ندعم الاتفاق الثلاثي. سمعتُ منهم أن إهتمامهم هو إجراء الانتخابات وحصول إصلاح. لا مصلحة لديهم في أن تكون ثمّة مجموعة خارج التفاهم مع الآخرين».
قلت: «لو كان الرئيس متعاطفاً مع هذا الأمر، هل يكون له تأثير أكبر؟ ألا يريدون في رأيك فرض سياساتهم الدفاعية والخارجية وفي القطاعات الأخرى؟ المسلمون يعترضون أكثر منا على هذه السياسات. ألا ترى ذلك خطراً أيضاً؟ أنا لا أتحدّث عن الموقف المسيحي فقط. هذا الصباح بالذات حضر إليَّ نائب مسلم متطرّف ضدّ هذا الاتفاق أكثر من أي ماروني آخر».
قال مورفي: «لبنان صمد بسبب تمسّكه بالقِيم كالإعتدال. أعتقد أن على اللبنانيين أن يبقوا معتدلين. عليهم المحافظة على هذه التقاليد».
قلت: «أنا إقترحتُ أسماء المرشّحين الأكثر إعتدالاً. بصراحة، لا مرشّح لديّ، ولا مصلحة لي في الموضوع. أريد إجراء الانتخابات. يمكنك الإتكال عليَّ لتسهيل حلول المشكلات. أنا منفتح ومستعدّ للتسوية. لكن من واجبي لفت الإنتباه إلى بعض العقبات. كما جاء في كتاب فرنان والترز أو ريتشارد نيكسون هل أن الولايات المتحدة معتادة على معاقبة أصدقائها. هل من الواجب التخلي عن سيادتنا من أجل تفادي الفوضى؟ أنت تعرف أن المقاربة السورية ميكيافيلية. بدأنا بتنازلات، فتنازلات أخرى من دون أي نتيجة. أين هو الدور الأميركي؟ أنتم طلبتم أسماء، ونحن أرسلناها إليكم. وحدة لبنان مقدّسة. كما قلت أريد إجراء الانتخابات. إذا كان ذلك إقتناعكم أنا أريد منكم ضمانات بأن في وسعنا الإستمرار واختيار مرشّح ينجح. ليس لديّ شيء ضدّ ضاهر ومستعدّ لدعمه. ليس المهم الكلام عن مواصفات المرشّح، ولا نريد وضع فيتو على أحد. لكن علينا تفادي أن يصبح الرئيس الجديد رهينة بين أيدي سوريا وإسرائيل وإيران وعرفات. من المهم أن نعرف أي دور للولايات المتحدة. ما قلتَه لي الآن لم يُقدّم إليَّ أي ضمانات: هل ضاهر أم الفوضى؟».
قال: «لا أعتقد أن انتخاب السيّد ضاهر هو تخلّ عن السيادة. أنتم بلد يجبه وضعاً سياسياً مفتتاً، وقد يكون الرجل طريقة لإعادة اللحمة معاً إلى البلد. لا أستطيع اليوم القول لك إن واشنطن تستطيع أن تعطيك ضمانات. لكننا نؤمن بسيادة لبنان. لا نعتقد أن خيار الخميس (جلسة 22 أيلول) هو تخلّ عن السيادة. السيّد ضاهر وقف ضدّ دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، وصوّت مع اتفاق 17 أيار…».
قاطعتُه: «لستُ ضدّ أحد. السيّد ضاهر صديق قديم لي، ولا مشكلة بيننا. إذا انتُخب أدعمه، لكنه قريب جداً من حلفاء دمشق. سوريا تقترح مرشّحاً تثق بأنه سيأتي إلى لبنان بحقبة جديدة. أنت وأنا نعرف أي حقبة تتوقّعها سوريا؟ عندما إلتقيتُ الوزير شولتز في قبرص، طلبتُ منه بعض الضمانات، فردّ بطلب عدم الخوض فيها قائلاً إن ليس في مقدور أميركا إعطاء ضمانات. الضمانات التي نطلبها تجنيب الرئيس الجديد أن يُفرض عليه توقيع أي وثيقة ضدّ مصلحة لبنان. أقول ذلك للتاريخ وفي محضر اجتماعنا. أعرف أنني سأبقى وحدي، كما أن أميركا والمجتمع الدولي في وادٍ آخر».
سألته: «هل تتوقّع أن يتصرّف الجيش السوري في بيروت أفضل ممّا تصرّف في حمص أو حماه؟ لهذا الجيش عقيدة، وسيستعمل هنا الوسائل نفسها لتحقيق مآربه. أعتقد أن القادة اللبنانيين سيُخرَجون من اللعبة. أما الذين ينضمّون إلى مشروع السوريين فسينخرطون في الحكم الجديد. الباقون سيُقصون. ما أخشاه أن تفهم سوريا رسالتكم على أنها أمر مفروض غير قابل للمناقشة. المشكلة ليست في شخص المرشّح، بل في الهيمنة السورية عليه. الحكومة الجديدة سيؤلفها السوريون ويختارون لها الأقرب إليهم».
عقّب مورفي: «كما قلت، إن لم تُجرَ الانتخابات الخميس سيكون الأمر تقسيمياً للبلد».
رددتُ: «نحن نعرف الأهداف السورية. لا يمكننا القول إن هذا هو الحلّ ولا آخر سواه. مبادرتكم إلى الآن لا تمنحنا الشعور بالأمان».
ردّ: «أستطيع القول لك إن بلادي ستواصل دعمها سيادة لبنان، ولن تتعاون مع السوريين من أجل تدمير بلدكم».
ختمتُ: «شكراً مجدّداً وأرجو أن توصل تحيّاتي إلى الرئيس ريغن والسيّد شولتز».
كان هذا الموعد في يوم أحد. في هذا النهار تقليد قديم ثابت في حياتي العائلية والسياسية لا أكسره أبداً ما لم أكن خارج البلاد، هو تناول الغداء مع عائلتي: والدتي وزوجتي وأبنائي. ما أن إقترب موعد الغداء في منزلنا العائلي في بكفيا، دعوتُ مورفي وسمبسون إلى مشاركتنا المائدة وإستكمال الحديث.
مع أن والدتي الحاضرة بيننا معروفة بتحفّظها، لم تتمالك نفسها عن التغاضي عن الإهانة التي وُجِّهت إلينا ممّا سمعت الموفد الأميركي الخاص يُكرّره. بينما نهمُّ بالخروج قالت لضيفنا ببرودة مصطنعة في حديقة المنزل: «سيّد مورفي، هل يقبل شعبكم بأن يُفرض عليه رئيسه من الخارج؟».
فوجىء بكلامها من غير أن يُعلّق، مكتفياً بأنه مضطر إلى المغادرة على عجل بسبب إرتباطه بموعد مع البطريرك الماروني في بكركي».
صحيفة الأخبار اللبنانية