الجنرال الماء

ليس انقطاع الماء ما يفتت الحجر..بل جريانه!

ابتدأت العواصم العربية تنفض عن فضيحتها الغبار السميك الذي كان يحجب مقدار القذارة فيها، بفضائل الإخفاء والإخفاق.

فثمة عاصمة… تستأجر الطيارين لتدمّر بلداً مؤلفاً من الطين وشبابيك الدمى المزخرفة في “يمن” لا أدري كيف كان سعيداًيوما في الأزل الكوني؟..

وثمة عاصمة… يفجّرها بالمفخخات يومياً جيش الإرهاب الزاخر بكل ما يحتاج إليه من مال وكيمياء وسلاح وانعدام الرحمة فتصبح بغداد عاصمة البغدادي بدلا من بلد الرشيد.

وهناك عاصمة أخرى… ستقتلها رائحة المزابل لأن الحكومة اختلفت على حصة إبليس من بقايا البشر.

اما سيدة العواصم ، سابقاً، فيشاء المسلحون فيها أن يقطعوا الماء عن 5 ملايين فم وجسد، ويجبرون جمهورهم الافتراضي ( المتدينين) على التيمّم في بلد الغوطتين وسبعة أنهر .

إلى عاصمة أخرى يقتل فيها الناس وهم سجود بين يدي إلههم في بيوته .

هذه العواصم تأكل نفسها وتأكل غيرها، ولن يبقى في دفتر مذكراتها غير هذا النوع من الحروب القذرة، التي أحيت الشهية لمراجعة تاريخ البرابرة.

دمشق، التي اخترعها تهر جني اسمه ” بردى “.. والتي يخترقها النهر من سبعة منابع، ويجري فيها كشرايين الجسد… تعطش اعتباراً من أمس لأن المسلحين انحشروا قتالياً في الزبداني، ولأن النظام يحاصرهم… نحن يجب أن نعطش ، نحن الخمسة ملايين ، كي يتحرر من الحصار بضعة مئات من المقاتلين ، لم تعد أهدافهم واضحة حتى لعائلاتهم الشخصية.

نبع الفيجة، ونبع بردى من معجزات الطبيعة، ومن مكرمات الجبال الشاهقة، وأعلاها جبل الشيخ…حولوه الآن إلى العدم، فتوقفت الحنفيات في البيوت وبدأ الناس يقولون: سنشهد، في الأيام القادمة، البدايات الأولى لتجارة الماء بالصهاريج والبراميل والأواني والقناني، ومثلما حدث لحلب الشقيقة، العاصمة الثانية لسورية، من عطش وازدراء بحياة البشر، في معركة كسر العظم والإرادات بين السلطة والمعارضة…سيحدث لدمشق. ومثلما ارتفع ثمن كيلو السكر من خمسين ليرة إلى خمسة آلاف ليرة…سيرتفع ثمن زجاجة الماء إلى أرقام يؤرجحها عطش الأطفال، وموت النظافة.

في كل الحروب…ثمة محرمات موروثة ، محرمات آتية من كمية الهول الذي رافق وحشيتها ، ومن خبرة طرفي البربرية ، وفداحة خسائرها… اتفقت البشرية، التي شبعت دماء من شرايين مائة مليون إنسان في حرب واحدة (العالمية الثانية)…اتفقوا على قوانين من بينها عدم تعطيش الناس الذين لا ذنب لهم ، وليسوا طرفاً في القتال.

أما لدينا في عواصمنا فلا شيء قيد التحريم. وكل شيء له ـ للغرابةـ نفس الأسم الأول: عاصفة الصحراء، عاصفة الحزم، عاصفة الجنوب، عاصفة الغضب …

وقريباً ، الآن…. عاصفة العطش.

الغريب أيضاً أن وزير خارجية السعودية… قد يكون وراء هذه الحملة الشرسة حيث لا يرى حلاً للأزمة السورية إلا بالحل العسكري (إزاحة بشار الأسد) بالقوة.

فإذا كانت المياه ، هنا في دمشق ، إحدى أدوات الوزير السعودي العسكريه، فالنتيجة المتوقعة ليس زحف الدمشقيين إلى القصر الجمهوري. وإنما إضافة فيالق من الموتى إلى منجزات هذا الصيف الحار، وديبلوماسية المبتدئين في الاستخدام المفرط لشؤون القوه .

إن استخدام المياه بهذه الطريقة الحربية الخالية من أي اعتبارات…أسوأ بكثير من استخدام السلاح الكيماوي. وأبشع ، من حيث نتيجة العقوبة ، من الذبح على الطريقة الداعشية. ولسوف تشكّل ، في مجرى الحرب، سبباً لولادة أعنف مواجهة بين الإنسان السوري وقدره الغاشم عديم الموهبة وعديم الرحمة.

الماء…يالهذه الكلمة التي لم نفكر بها من قبل.

الماء…الذي أنجب هذا الكون، صار…سلاحاً؟

الماء…قد يصبح مجرد أغنية في فم العطشانين.

أيها السادة…اتركوا لنا الماء…

وخذوا هذا النصر البذيء … النصرعلى الحاجة البشرية الأولى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى