تحليلات سياسيةسلايد

“الجيش” الإسرائيلي في غزة بين “المرحلة الثالثة” والهروب للأمام

محمد منصور

بات من الواضح وجود خلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي بخصوص المرحلة المقبلة من الحرب في غزة، خاصة بعد دعوة الولايات المتحدة إلى تغيير طبيعة أنماط العمليات الإسرائيلية في المرحلة المقبلة من الحرب خصوصاً في مناطق الجنوب.

 

تحاول وحدات “الجيش” الإسرائيلي “جاهدة” إكمال المرحلة الثانية من عملياتها العسكرية في قطاع غزة، والتي شملت-على عكس المرحلة الأولى-مناطق القطاع الأساسية كافة، “شمال-وسط-جنوب”.

وعلى الرغم من أن ظاهر الواقع الميداني وحدود الوجود البري “للجيش” الإسرائيلي، قد يشير إلى تقدّم ميداني للوحدات الإسرائيلية-مقارنة بالأوضاع في المرحلة الأولى-إلا أن عدم تحقّق “إنجاز ميداني كبير”، يجعل من النتائج التي تمّ التوصّل إليها في هذه المرحلة من العمليات، مطابقة إلى حد بعيد لنتائج المرحلة الأولى.

كانت السمة الأساسية في الجانب الميداني خلال الأيام الأخيرة، إعلان الوحدات الإسرائيلية العاملة في شمال قطاع غزة، إنهاء عملياتها في معظم محاور القتال، خاصة محاور حي الزيتون وحي الشجاعية، وبالتالي لم يعد متبقّياً أمام القوات الإسرائيلية في الجبهة الشمالية، سوى حي الدرج والتفاح الذي تتمحور حوله العمليات العسكرية حالياً، إلى جانب عمليات أقلّ حدة في مخيم جباليا. رغم هذا، إلّا أنّ الواقع الميداني يشير إلى استمرار شنّ فصائل المقاومة عمليات في معظم مناطق شمال قطاع غزة، سواء أحياء الشجاعية والزيتون، أو منطقة الشيخ رضوان، أو حتى الشريط الساحلي.

السمة الثانية في هذا الصدد، كانت انتقال العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى منتصف قطاع غزة، بهدف السيطرة على منطقة المخيمات الوسطى “البريج-النصيرات-المغازي-دير البلح”، ومن الواضح أن “الجيش” الإسرائيلي يريد بشكل عاجل السيطرة على نطاق مخيمات المنطقة الوسطى، لفرض واقع ميداني جيد يمنح قواته في الشمال فرصة لإنهاء العمليات العسكرية بشكل كامل، وفي الوقت نفسه الفصل بشكل تام بين الشمال والجنوب.

فيما يتعلّق بالمنطقة الجنوبية لقطاع غزة، استمرّت العمليات الإسرائيلية شرق وجنوب شرق مدينة خان يونس، وتحديداً في منطقة “بني سهيلة” جنوب شرق المدينة، ومنطقة “الكتيبة” على تخوم حي الأمل، شرق المدينة، وقد أطلق “الجيش” الإسرائيلي مؤخراً، محوراً هجومياً جديداً في اتجاه منطقة “خزاعة” جنوب شرق خان يونس، نقل إليه اللواء المظلي 551 “احتياط” التابع للفرقة 98 مظلات، بما يؤشّر على وجود رغبة إسرائيلية في تسريع وتيرة العمليات وسط وجنوب القطاع، إيذاناً بقرب بدء المرحلة الثالثة من العمليات، وبالتالي تستمر عمليات الفرقة 162 في حي الدرج والتفاح، وعمليات الفرقتين 98 و99 في خان يونس، وعمليات الفرقة 36 في مخيم البريج.

هذا يلاحظ بشكل كبير من خلال التعديلات العاجلة التي طرأت على التشكيلات القتالية العاملة في شمال ووسط غزة، والتي بموجبها بات حالياً يقاتل في كلّ محاور القتال في قطاع غزة، نحو 29 لواء إسرائيلياً، من بينها ستة ألوية مدرعة، وستة ألوية مشاة ومشاة ميكانيكية، وأربعة ألوية مدفعية، وتسعة ألوية قوات خاصة ومظلات. بداية هذه التعديلات كانت بسحب لواء جولاني من حي الشجاعية بعد إنهاء عملياته هناك، ثم الدفع بعدد محدود من كتائبه نحو المخيمات الوسطى، وصولاً إلى الدفع بلواء مظليّين نحو جبهة خان يونس، لينضمّ إلى قوات الفرقة 98 التي تقاتل في جنوب قطاع غزة، وإعلان “الجيش” الإسرائيلي عن تسريح خمسة ألوية احتياط كانت تعمل في شمال قطاع غزة، وهي اللواء 460 مدرّع، المسؤول عن قاعدة تدريب سلاح المدرعات، واللواء 261، الخاص بمدرسة تدريب الضباط في زمن الحرب، واللواء 828، التابع لمدرسة ضباط المشاة وقادة الفرق، واللواء المدرع الاحتياطي الرابع عشر، ولواء المظليين 551.

وعلى الرغم من أن هذه التعديلات تشير من حيث الشكل إلى انخفاض وتيرة القتال في شمال قطاع غزة، إلا أن سببها الأساسي هو اقتصادي بالدرجة الأولى، حيث ستعود هذه الألوية المكلّفة بتدريب الجنود لممارسة نشاطها المعتاد، بينما سيتمّ تسريح جنود الاحتياط للمساعدة في إنعاش الاقتصاد الإسرائيلي.

وقد أشارت وسائل إعلام إسرائيلية عديدة، إلى بدء استعداد “الجيش” الإسرائيلي، للانتقال إلى “المرحلة الثالثة” من الحرب خلال الأسابيع المقبلة، ويتوقّع أن يكون شكل هذه المرحلة على شكل عمليات قتالية مركّزة، يتمّ بموجبها وقف عمليات الاجتياح البري الواسعة، وتسريح عناصر من قوات الاحتياط، وتقليص العمليات العسكرية، والانتقال إلى عمليات جراحية، ومهمات تستهدف تحديد أماكن وجود قادة الصف الأول في كتائب القسام وتصفيتهم، ومن ثم إقامة منطقة عازلة آمنة داخل قطاع غزة.

نقاط جدلية ومفصلية أمام صانع القرار الإسرائيلي

النقطة الأكثر أثارة للجدل على الجانب السياسي في “إسرائيل”، تتعلّق بالمرحلة المقبلة من العمليات العسكرية، حيث أشارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” إلى أن “إسرائيل” تقترب من الدخول إلى المرحلة الثالثة من الحرب، لكن الخلاف بينها وبين الولايات المتحدة يزيد حول توقيت الانتقال، حيث تقتضي هذه المرحلة الانسحاب من مناطق هجومية محدّدة، بينما ستستمرّ التوغّلات البريّة على أهداف داخل قطاع غزة، وكذلك الغارات الجوية.

وقد بات من الواضح وجود خلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي بخصوص المرحلة المقبلة من الحرب في غزة، خاصة بعد دعوة الولايات المتحدة إلى تغيير طبيعة أنماط العمليات الإسرائيلية في المرحلة المقبلة من الحرب خصوصاً في مناطق الجنوب، وهي المرحلة التي أشارت دوائر أميركية إلى أنها ستبدأ أواخر الشهر الجاري.

نقطة أخرى تتعلق بمستقبل قطاع غزة كانت مثار نقاشات مستفيضة في الداخل الإسرائيلي، وهي “سيناريوهات اليوم التالي”، حيث تتحدث الأوساط السياسية في “تل أبيب”، أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي رغم رفضه النقاش حول “اليوم التالي” لانتهاء الحرب في غزة، قد طلب من المسؤولين الأمنيين، فحص ما إذا كانت هناك قوى محلية في قطاع غزة يمكن التعاون معها واستخدامها في إدارة شؤون القطاع بعد الحرب، وما إذا كان بالإمكان تعزيز مكانة عشائر مسلحة وجهات محلية ودعمها، بحيث يمكنها السيطرة على أجزاء من قطاع غزة.

وقد أكدت هيئة البث الإسرائيلية هذا التوجّه، وقالت إن “إسرائيل” تريد إنشاء هيئة في قطاع غزة تتولّى إدارة المساعدات وتوزيعها على سكان القطاع، بالتعاون مع المنظمات الدولية، على أن تكون من السكان المحليين، وأوضحت أن هذه الهيئة ستركّز عملها في شمال قطاع غزة الذي تعتقد “إسرائيل” أنها سيطرت عليه عسكرياً.

هذا النهج يؤكد رفض “تل أبيب” حتى الآن، أي انخراط للسلطة الفلسطينية في إدارة قطاع غزة، وهذا ما أشارت إليه صحيفة “واشنطن بوست”، حول عدم تأييد “إسرائيل” محاولات الولايات المتحدة لتعزيز دور السلطة الفلسطينية وتمهيد الطريق أمامها لتولي زمام الحكم في قطاع غزة بعد إنهاء القتال.

يضاف إلى ذلك التحدّي المتعلّق بوضعية الحدود الشمالية لـ “إسرائيل”، فقد أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي في تصريحات صحافية، إلى أن “إسرائيل تسعى إلى حل مشكلة الشمال عبر الطرق الدبلوماسية، لكن حال عدم تحقّق ذلك فيوجد طرق أخرى”. وفي هذا السياق تشير دوائر لبنانية إلى أن الولايات المتحدة وفرنسا تضغطان حالياً على الحكومة اللبنانية من أجل الدفع باتجاه فرض سيطرة الجيش على جنوب لبنان وسحب قوات حزب الله، وذلك عبر التلويح بخيار الحرب الإسرائيلية.

يترافق هذا مع بدء ضغوط واضحة من جانب رؤساء مجالس المستوطنات الشمالية، الذين صرّح أغلبهم بتصريحات مناهضة لنهج نتنياهو في إجلاء سكان المستوطنات الشمالية، وشلّ الحياة الاقتصادية في الشمال، خاصة بعد أن أفادت إذاعة “كان ريشية بيت” الإسرائيلية، بأن المواقف المعلنة لبنيامين نتنياهو، بشأن المسافة التي تطالب “إسرائيل” بإبعاد “حزب الله” في لبنان إليها، مختلفة عما يدور في الأروقة المغلقة، حيث تبيّن أنه بخلاف الرسائل المعلنة الصادرة عن المستويين السياسي والعسكري في “إسرائيل”، في ما يتعلّق بإبعاد حزب الله إلى عمق لبنان، فإنه من خلال الاتصالات التي تجريها “إسرائيل” مع الولايات المتحدة وفرنسا، تمرّر رسائل أخرى مختلفة كلياً، خاصة بما يتعلق بالمسافة التي يجب إبعاد حزب الله إليها.

سيناريوهات مستقبلية متعدّدة، تكتنفها مصاعب معقّدة

بالنسبة للسيناريوهات المستقبلية، والتي ستؤشر فعاليات المرحلة الثالثة من العمليات عليها، فقد تحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي مراراً عن “السيطرة أمنياً” على قطاع غزة، وهو ما يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات يمكن من خلالها فرض “مناطق عازلة” على أراضي قطاع غزة، منها سيناريو “صلاح الدين-فيلادلفيا”، القاضي بسيطرة “إسرائيل” على المحور الذي يحمل الاسم نفسه في قطاع غزة، وبالتالي إمساكها بالمعابر البرية الخاصة بالقطاع كافة – بما في ذلك الجانب الفلسطيني من معبر رفح – وفرض منطقة عازلة على طول القطاع الواقع غرب طريق صلاح الدين، أي المناطق الواقعة بين غلاف غزة وطريق صلاح الدين.

اللافت أن هذا السيناريو يلاقي معارضة “مكتومة” من جانب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي لا تريد وجوداً دائماً في غزة، وترى أن من الأفضل الاستمرار في السيناريو الميداني الحالي، الذي يستهدف سحب إدارة قطاع غزة من يد حركة حماس، ثم فرض ترتيبات جديدة على الوضع الإداري للقطاع، خلال مرحلة ما بعد انتهاء القتال.

كذلك طرحت بعض الأوساط الإسرائيلية سيناريو يتم بموجبه إنشاء هيئة عسكرية تدير العمليات في قطاع غزة، تندرج تحت قيادتها مجموعة من الوحدات القتالية، تقوم بتنفيذ عمليات توغّل متكرّرة من حين لآخر داخل القطاع، بنسق مشابه لما يحدث في الضفة الغربية، وهو سيناريو يفترض أنه سيتم بعد إنهاء القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية بشكل شبه كامل، أو تقليصها للحد الذي لا يمثّل تهديداً آنياً على الأراضي الإسرائيلية، وهو ما لم يتم حتى الآن.

يضاف إلى هذه السيناريوهات، أخرى ترتبط بفرض مناطق عازلة بشكل جزئي داخل القطاع، منها ما يتضمّن فرض منطقة عازلة في القطاعين الشمالي والأوسط لغزة، وهو سيناريو يحتاج لوجود دائم لقوات إسرائيلية على الأرض، وسيناريو فرض ثلاث مناطق عازلة في شمال ووسط وجنوب القطاع، بشكل يتم من خلاله تقطيع أوصال القطاع، ومنع استعادة حركة حماس لقدراتها العسكرية، وسيناريو فرض منطقة عازلة وسط القطاع، وهو سيناريو يحتاج إلى إنهاء شبه كامل للقدرات الفلسطينية، بشكل يسمح للقوات الإسرائيلية أن تكون موجودة في وسط القطاع بشكل دائم، من دون تعرّضها للتهديد، وفي هذا السيناريو ستكون القوات الإسرائيلية بمثابة قوة مراقبة لأيّ تحرّكات معادية.

على المستوى التكتيكي العام، لا يمكن اعتبار تزايد حجم الوجود الإسرائيلي في شمال ووسط قطاع غزة، دليلاً على “السيطرة الميدانية”، خاصة بعد استمرار عمليات المقاومة في مناطق تم الإعلان مسبقاً عن انتهاء العمليات الإسرائيلية فيها، مثل حي الزيتون وحي الشجاعية.

لكن يمكن القول إن عمليات إطلاق الصواريخ من جانب الفصائل الفلسطينية، تراجعت بشكل واضح، رغم أن الهدف الإسرائيلي كان إنهاء القدرة الفلسطينية على إطلاق الصواريخ بشكل كامل، لذا كان لافتاً استمرار عمليات إطلاق الصواريخ من جانب الفصائل الفلسطينية، لكن بوتيرة متراجعة.

على المستوى القيادي، لم تتمكّن “تل أبيب” من تحقيق ضربات مؤثّرة في الهيكل القيادي لكتائب القسام، وعملياً وقع الضرر الأكبر على الكادر القيادي لألوية الكتائب، على لواء واحد فقط وهو لواء غزة، الذي كان الأكثر تضرراً على المستوى القيادي.

وإذا ما وضعنا الخسائر التي تلقّتها “تل أبيب” على مستوى الوحدات المدرّعة – والتي تقدّر من الجانب الفلسطيني بنحو 825 قطعة عسكرية متنوّعة – يمكن القول إن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، يلقي بظلال قاتمة على اقتصاد “تل أبيب”، حيث يتوقّع أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى 66 % عام 2024، وأن تشكّل تكاليف الحرب – التي بلغت حتى الآن 51 مليار دولار – ما نسبته 10 في المئة من ميزانية 2024، في ظل تضخّم عجز الميزانية إلى 6 مليارات دولار، ولجوء “تل أبيب” لاقتراض نحو 8 مليارات دولار حتى الآن.

مجمل هذا الوضع بات يشكّل حالة ضاغطة نحو إنهاء العمليات العسكرية في أقرب فرصة، أو تحويلها إلى عمليات “محدودة النطاق ومركّزة الأهداف”، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتزايد المصاعب التي تواجه عمليات تزويد “تل أبيب” بالذخائر والأسلحة، نظراً للأوضاع الحالية في أوكرانيا، والتعقيدات الداخلية المتزايدة في الكونغرس الأميركي، والتي جعلت صفقة “عادية” مثل صفقة توريد 20 ألف بندقية هجومية من نوع “M4A1″، تتعطّل لفترة من أجل مراجعة بنودها، قبل أن تتمّ الموافقة عليها.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى