الجيش والديمقراطية والسياسة في تركيا
العلاقة بين العسكر والسياسة في تركيا، علاقة عضوية نشأت حتّى قبل تأسيس الجمهورية التركية عام 1923؛ فالانقلاب العسكري الأوّل جرى عام 1908 عندما خَلَع ضبّاط “جمعية الاتّحاد والترقّي” السلطان عبد الحميد الثاني، وزجّوا البلاد في الحرب العالمية الأولى؛ إلّا أنّ علاقة العسكر بالسياسة توطّدت واتّخذت شكلها الدستوري في عام 1924، عندما وَضَع مؤسِّس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك معادلةً في أوّل دستور للجمهورية، مفادها: “الجيش يَحمي الدستور، والدستور يَحمي الجيش”، وأصبحت هذه المعادلة ثابتة في الدساتير التي وضعها الجيش، وتجلَّت بشكلٍ كبير في دستور عام 1982 عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين عام 1980.
ثمّة قناعة في عقيدة المؤسّسة العسكرية التركية، أنّ الجيش هو الأب الحقيقي والشرعي للدستور، ففي دستور عام 1982 أكثر من مائة مادّةٍ وبَنْدٍ تُشير إلى دَور الجيش في الحياة العامّة للبلاد، لعلّ أهمّها وأخطرها المادّة 35 التي كانت تقول “إنّ وظيفة القوّات المُسلَّحة هي حماية الوطن ومبادئ الجمهورية التركية”. وقد شكّلت هذه المادّة المدخل القانوني الذي اعتمده الجيش في الانقلابات العسكرية السابقة التي قام بها (1960 – 1971 – 1980 – والانقلاب الأبيض ضدّ نجم الدين أربكان عام 1997 – وصولاً إلى الانقلاب العسكري الفاشل منتصف تموز/ يوليو الماضي)، مع أنّه تمّ تعديل هذه المادّة في عام 2010، بحيث أصبحت وظيفة الجيش هي حماية البلاد وليست التدخّل في الحياة العامّة تحت بَنْد الحفاظ على مبادئ الجمهورية التركية.
ثمّة اعتقاد بأنّ طبيعة عقيدة الجيش التركي هذه تعود إلى مجموعة من الأسباب والعوامل، لعلّ أهمّها:
إنّ عقيدة المؤسّسة العسكرية التركية نشأَت على أساس أنّها ضدّ التعدّد القومي (الكردي) والهويّة الدينية (الإسلام )، على الرّغم من تجذّر الأخيرة في حياة البلاد وهويّتها. وعليه، ظلّ الجيش بالمرصاد لهذَيْن الأمرَيْن طوال العقود الماضية، وقد تجسَّد ذلك في سلسلة الانقلابات العسكرية السابقة، والتي كانت تحصل عادةً في ذروة صعود البُعدَيْن السابقَيْن إلى سدّة المشهد السياسي التركي.
إنّ الجيش التركي، وانطلاقاً من موقعه الذي كان يُدير منه البلاد من خَلف الستار، ظلّ في عزلة عن الحياة العامّة والمجتمع، وقد ترتّب عن هذه العزلة ذهنية مُغلقة حملت معها على الدّوام هاجس الانقلاب على مَن يودّ الحدّ من دوره في الحياة العامّة وفي صدامٍ مع الحراك المدني والحزبي.
إنّ جهود المجتمع المدني السابقة فشلت في تغيير ذهنية الجيش وعقيدته، إذ إنّ جميع الجهود التي بُذلت في هذا الصدد، لم تَنَلْ من عقيدته، بخاصّة أنّ المناهج التي تُدرَّس في الكلّيات والمعاهد الحربية ظلّت تغذّي رؤيته السابقة في النّظر إلى السياسة والمجتمع على شكلِ ثقافة فوقية على حساب الديمقراطية وحقوق المواطن والتحوّل المدني.
حزب العدالة والجيش
ثمّة عوامل داخلية وخارجية خدَمت حزب العدالة والتنمية في وصوله إلى السلطة عام 2002، ومن ثمّ سعيه الحثيث إلى إعادة هَيْكَلة المؤسّسة العسكرية التركية في إطار رؤية رجب طيّب أردوغان لتركيا المستقبل. فإذا كان حزب العدالة والتنمية استفاد من قواعد اللّعبة الديمقراطية والتحوّلات الاجتماعية في الداخل التركي للوصول إلى السلطة، فإنّه نَجَح بشكلٍ كبير في تحويل خطواته التكتيكية إلى استراتيجيةٍ أوصلته إلى سدّة الرئاسات الثلاث (الجمهورية – البرلمان – الحكومة) ليبدأ حملة تغييرات وإصلاحات نَجحت تدريجياً في تقويض دَور الجيش وإبعاده عن الحياة العامّة للبلاد. ولعلّ ما ساعد أردوغان على تحقيق هدفه هذا، جملة من العوامل، أهمّها:
إنّ حزب العدالة والتنمية طرح نفسه حزباً ديمقراطياً مُحافظاً، يستطيع التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، وهو ما أثار دعم الغرب له بوصفه يشكّل نموذجاً إسلامياً مَرِناً قادراً على ضبط معادلة القوى السياسية في المنطقة عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبمتبر، قبل أن يكتشف الجميع حقيقة البُعد الإيديولوجي لحزب العدالة والتنمية، كإطار إيديولوجي يمثّل الإخوان المسلمين في المنطقة، ويقوم بدعمهم للوصول إلى السلطة. وقد ظَهَر هذا الأمر جليّاً مع “ثورات الربيع العربي” في تونس ومصر وليبيا وصولاً إلى سوريا، وقد شهدنا ما يُشبه الانكشاف الإيديولوجي للحزب، من دون أن يعني عدم استفادته من الغرب خلال السنوات الماضية لإحداث تغييرات جوهرية في الداخل التركي.
إنّ عملية تفكيك قبضة المؤسّسة العسكرية عن الحياة العامّة في تركيا اتّخذت شكل الإصلاحيّات المطلوبة لبدء مفاوضات الانضمام إلى العضوية الأوروبية على أساس تحقيق معايير كوبنهاغن، وهو بهذا السلوك نال دعم الاتّحاد الأوروبي من جهة، ومن جهة ثانية وَضَع الجيش في زاويةٍ حرجة على اعتبار أنّ مطلب العضوية الأوروبية هو في الأساس مطلب أتاتوركي (مصطفى كمال أتاتورك)، فضلاً عن أنّه مطلب شعبيّ لتحقيق المعايير الديمقراطية والرفاه الاقتصادي. ولذلك لم يستطع الجيش المجاهرة برفض هذه الإصلاحات ولو على حساب دوره التاريخي.
إنّ خطوات أردوغان اتّخذت الآليات الدستورية والقانونية المُتاحة، وبشكلٍ تدريجيّ، وهي ركّزت على إعادة هَيْكَلَة المؤسّسة العسكرية وفق أُطرٍ دستورية وتشريعية، وبعد نجاحه في إخراج مجلس الشورى العسكري الأعلى من قبضة الجيش لصالح الحكومة المدنية، وإبطل المفعول الإلزامي لقراراته وجَعْلها من اختصاص الحكومة، ركَّز على إخراج الجيش من الدستور عبر إلغاء البنود والمواد التي كانت تُعطيه صلاحيات واسعة. وقد نَجح في النهاية عبر هذه الاستراتيجية ليس في إخراج الجيش من الدستور، بل وفي وَضْع العسكر خلف القضبان في مشهدٍ غير مألوف في التاريخ التركي. وبذلك انتهت تلك المعادلة التاريخية التي كانت تقول إنّ الدستور يحمي الجيش والجيش يحمي الدستور.
مخاطر ما بعد الانقلاب الفاشل
إذا كانت لكلّ ديمقراطية محاسنها وعيوبها، انطلاقاً من خصوصية التجربة والهويّة والقِيم الاجتماعية والثقافية والفكرية، فإنّ الثابت هنا هو أن لا تكون هذه الديمقراطية في الموقع المُضادّ للحرّية والثقافة والحقوق الأساسية للفرد وخيارات المجتمع. ولعلّ المقياس العملي والحقيقي هنا للممارسة الديمقراطية يتعلّق بالدستور وليس بشرعية الحكم وحده. ففي التجربة العملية لممارسة الديمقراطية في تركيا، برَزت تجربة صندوق الاقتراع كمدخلٍ للوصول إلى السلطة والانتقال السياسي، لكنّ الوقائع أَثبتت أنّ هذا المدخل وحده غير كافٍ كي تكون ممارسة الحُكم ديمقراطية، وبخاصّة لجهة المفاهيم. ولعلّ الكثير من تجارب الحُكم التي جاءت عبر صناديق الاقتراع انتهت إلى أنظمة شمولية ودكتاتورية، لأنّها ابتعدت عن ممارسة الديمقراطية. فمهما كانت نتائج صناديق الاقتراع، لا ينبغي أن يتحوّل الحُكم الديمقراطي إلى حُكم نظامِ الحزب الواحد والرجل الواحد الذي يعتقد أنّه مصدر كلّ السلطات، وأنّ على الجميع أن يشتقّ منه القرار.
تركيا وبعد فشل الانقلاب العسكري الأخير تبدو أمام مشهدٍ خَطر جدّاً؛ فمشروع التوفيق بين الديمقراطية والإسلام والاقتصاد لم يَعُد قائماً، والحركة العامّة تسير نحو تكريس سلطة الرجل الواحد الذي يقوّض شرعية الدولة والمؤسّسة لصالح تكريس سلطة الفرد والحزب الحاكم. حملة الاعتقالات والإقالات والإقصاء طالت مختلف المؤسّسات العسكرية والأمنية والحركات والأحزاب والجامعات والقضاء والتعليم بل حتّى الحزب الحاكم نفسه. وكلّ ما يجري يتمّ في ظلّ حالة الطوارئ وقوّة قانون الطوارئ، وما يجري أيضاً يُسخَّر لصالح الحزب وسلطة الرئيس بعيداً عن البرلمان والأحزاب المنضوية فيه. وهكذا تُصبح عملية إعادة هيكلة الدولة ومؤسّساتها، وكأنّها عملية مُسخَّرة لصالح المشروع السياسي للحزب الحاكم وليس للدولة نفسها. وفي الحديث عن تطوّر العملية الديمقراطية والسياسية في تركيا، لا يمكن النّظر إليها بعيداً عن المسار الأوروبي الذي كان على الدوام اختباراً للعملية الديمقراطية وتطوّرها. وعليه، فإنّ شكل إعادة الهَيْكَلة الجارية تبدو وكأنّها تسير بعكس العملية الديمقراطية، ولعلّ من شأن ما سبق بقاء العسكر في الموقع المضادّ للديمقراطية، والتشبّث بالذهنية المُغلَقة والعقيدة العسكرية السابقة، وكلّها مرتكزات لبقاء العسكر في موقعهم القديم حتّى لو نجح أردوغان في إصدار المزيد من القرارات التي تحدّ من دورهم.
ما يجري في تركيا اليوم يتجاوز كيفية التعاطي مع الانقلابيّين، ويصل إلى الإقرار بموت (النموذج) الذي بشّر به، ومن شأن موت هذا النموذج دخول تركيا مرحلة شديدة الخطورة، لعلّ من أوّل ملامحها الانقسام الكامل بين مجتمعٍ تعدّدي يُريد التغيير، وسلطة تتّجه نحو الشمولية، شمولية تبدو واضحة من مصادرة وسائل التعبير، وإغلاق المؤسّسات الإعلامية، واعتقال الصحافيّين وسجنهم، وإقصاء كلّ مَن يُخالِف توجّهات السلطان. إنّها محاولة لمصادرة الوسائل السلمية للتغيير، وهذه قضية خطرة لأنّها بالدرجة الأولى تؤكّد وقوف السلطة في الموقع المضادّ للحرّية والديمقراطية. ولعلّ ما يثير الانتباه أيضاً هو أنّ تركيا في مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل تبدو مشدودة إلى روسيا وإيران وليس إلى أوروبا وأميركا اللّتَين شكّلت العلاقة بهما مساراً للإصلاحات الديمقراطية طوال العقود الماضية.
في الواقع، من الواضح أنّ الديمقراطية التركية، وعلى الرّغم من نواقصها، تبدو وكأنّها أمام فقدان مكتسباتها، وهو ما يرشِّح البلاد لمرحلة شديدة الخطورة حتّى لو نجح أردوغان في تحييد العسكر وإلحاقهم بسياسته فقط كرئيس للبلاد.
* كاتب وباحث بالشؤون التركية والكردية.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)