الجيش والسياسة والسلطة في الوطن العربي (منذر سليمان)

 

منذر سليمان

لدى توصيف العلاقة بين الجيش والسلطة، أو بين العسكريين والمدنيين، نستحضر التجربة الأوروبية والغربية عموماً، في التعبير الشهير لرئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو، الشخصية النادرة في جمعها مهنة الصحافة والطب وإدارة الحكم، حيث ينسب إليه القول «الحرب هي من الخطورة والأهمية بمكان لتترك أو تؤتمن للجنرالات».
ويبدو أن الخبرة العربية بالعلاقة نفسها في العقود الثمانية المنصرمة، تقودنا إلى الاستنتاج أنه لو خيّر العسكريون العرب أن يطلقوا تعبيرهم المفضل، لأردفوا دون تردد «السلطة (أو الحكم) هي من الخطورة والأهمية بمكان لتترك أو تؤتمن للمدنيين».
وبالفعل، فقد أقدموا على الإمساك بها بنهم شديد وكفاءة مستدامة يحسدون عليها، فقد نجحت النخبة العسكرية العربية منذ ثلاثينيات القرن الماضي (أي ما يقارب 73 عاماً) على حدوث أول انقلاب عسكري في الوطن العربي ـ قاده بكر صدقي وعبد اللطيف نوري في العراق ـ وحتى الآن، نجحت في أن تشكل نوعاً من الصمغ اللاصق يصعب انتزاعه من الحياة السياسية العربية.
لقد استولى بعض العسكريين العرب على الحكم في ظروف تتسم بسيادة التجزئة والتخلف والتبعية ونجاح المشروع الصهيوني في إقامة كيانه الغاصب في فلسطين. لقد تبنى زعيم النخبة العسكرية العراقية، ياسين الهاشمي، فكرة الوحدة العربية، وجعل منها محور نشاطه حتى أطلق عليه لقب «بسمارك العرب»، ووصف العراق في عهده بأنه «بروسيا العرب»، ووصفت بعض الأدبيات جمال عبد الناصر بتينك الصفتين أيضاً.
تجدر الإشارة إلى أن ياسين الهاشمي كان ضابطاً تخرج في الكلية العسكرية في اسطنبول في العهد العثماني، ورأس الوزارة العراقية مرتين في عامي 1924 و1935؛ وكان أول رئيس وزراء عراقي تتم إطاحته بانقلاب عسكري قاده بكر صدقي، وكان الهاشمي عضواً في «جمعية العهد» السرية لضباط عرب ينشدون إقامة كيان عربي مستقل وموحد في ظل انهيار الإمبراطورية العثمانية، وبتشجيع لاحق ووعود من البريطانيين.
شكّل الضباط العرب الذين خدموا في الجيش العثماني نواة النخبة العسكرية العربية الحديثة ومصدر إلهامها في مقارباتها في التفكير والسلوك والحكم. وكانت التقاليد العثمانية تتميز بفتح الباب أمام النخبة العسكرية للتدخل في الشؤون السياسية وممارسة السلطة، ولم يخرج أتاتورك عن حدود هذه التقاليد حين أوكل إلى الجيش، بنص دستوري، مهمة الحفاظ على العلمانية في الدولة والمجتمع. وتطعّمت رؤية وخبرة هذه النخبة مع بدء حقبة الاستعمار البريطاني والفرنسي على امتداد الوطن العربي، وتشكلت جيوش بقيادات أجنبية، وأخذ نموذج الضابط الأوروبي، وبخاصة البريطاني والفرنسي، يبرز أمام الضابط العربي في ظل التجزئة التي شملت الوطن العربي إثر انهيار الخلافة العثمانية، ووراثة الاستعمارين البريطاني والفرنسي تركة الرجل المريض على أساس معاهدة «سايكس ـ بيكو».
إن أبرز تجسيد لحقيقة ولادة وترعرع النخبة العسكرية العربية في الحضنين العثماني والأوروبي، هو ما ورد في مذكرات جعفر العسكري، أحد أبرز الضباط العرب الذين أسسوا «جمعية العهد».. فربما كان جعفر العسكري هو الضابط العربي الوحيد الذي تلقى وساماً ألمانياً رفيعاً، وهو في صفوف الجيش العثماني، ووساماً بريطانياً رفيعاً في قتاله إلى جانب الحلفاء. كما خدم كرئيس هيئة أركان لجيش الشريف حسين، أمير الحجاز خلال ما عرف بثورة أو انتفاضة الحجاز.
هناك انطباع شائع وخاطئ باستقلالية وحياد المؤسسة العسكرية عن السلطة والنظام السياسي في الدول الغربية الحديثة، ويساهم في تعزيز هذا الانطباع ترسخ واستقرار مؤسسات المجتمع المدني فيها، وانحسار دور الزعماء العسكريين الذين تبوأوا السلطة في العديد من الأقطار الغربية الرئيسية بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن الوقائع تشير إلى أن معظم هذه الأقطار يشهد تدخلاً سافراً ونفوذاً متزايداً من قبل القوات المسلحة في السلطة السياسية بصورة مباشرة خلال الأزمات أو فترات الحروب التي تشنّها، أو عبر ممثليها وحلفائها في المجمّعات الصناعية الحربية ومشتقاتها المالية والنفطية والاستشارية والأمنية التي ترعى مصالحها السلطات السياسية والمؤسسة العسكرية. مثال الولايات المتحدة ساطع حول تضخم الجسم العسكري والأمني في الهيكل البيروقراطي لها معززاً بضمان مخصصات ميزانية بأرقام فلكية. لقد أتقن العسكريون في العالم الغربي وحلفاؤهم المدنيون فن تحريك مفاتيح اللعبة السياسية الداخلية إلى درجة لا يحتاجون فيها إلى القبض على زمام السلطة السياسية مباشرة وبصورة مكشوفة، ويفضلون البقاء خلف الواجهة المدنية التي تتحرك وفقا لمشيئتهم. لقد أضحى الكونغرس الأميركي مضرباً للمثل في الارتهان لإرادة المجمع الصناعي الحربي لدى مصادقته بصورة دائمة على الميزانية التي تطلبها البيروقراطية العسكرية ـ الأمنية. نحن نشهد ترسّخ دولة الأمن القومي على المسرح الدولي برمّته، والفارق أن الخبرة الغربية تشهد من وقت لآخر تفعيلاً لمؤسسات المجتمع المدني القائمة وإجراء تصحيحات في المسار عندما تصل الأمور إلى حافة الهاوية، بينما بقيت النخبة العسكرية – الأمنية في الوطن العربي الجهة المحتكرة للحكم بصفتها الأكثر تماسكاً وتنظيماً وكفاءة واستقراراً منذ تكوين الكيانات القطرية تحت رعاية الانتداب الأجنبي في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني الطبيعية الأخرى. ولم تكن في جدول أولويات هذه النخب أو مصلحتها بناء وتعزيز هيكل ومؤسسات دولة القانون والمؤسسات؛ أو ترتيب حياة سياسية طبيعية مستقرة وفق آليات التعبير والتمثيل الديموقراطي للإرادة الشعبية، تؤدي إلى تداول سلمي وديموقراطي للسلطة. ولا تزال تبدو المؤسسات التي تبنتها أو سمحت بتكوينها أقرب إلى الديكورات التي تخفي ملامح السلطة الاستبدادية الأمنية، أو تضفي قناعاً كاذباً من التمدن والحداثة لامتصاص النقمة الداخلية أو الضغوط الخارجية.
صحيح أن الجيش «تعريفا» مؤسسة من مؤسسات الدولة، وليس جهازاً أو أداة بإمرة السلطة. إنه مؤسسة للأمة، وليس للنخبة الحاكمة، شأنه شأن مؤسسات السيادة الأخرى، كالقضاء أو رئاسة الدولة في النظام الجمهوري الديموقراطي، وفي النظام الملكي الدستوري أو البرلماني.
ولكن الولادة العسيرة والمشوّهة للكيانات ـ الدول في الوطن العربي، أفضت منذ الاستقلال الشكلي بعد جلاء الانتداب أو الاحتلال الأجنبي إلى ذوبان الفروق بين الدولة والسلطة والجيش، وساعد في تعميق هذه الصورة استمرار ثقل العامل الخارجي في التدخل في صياغة هذه العلاقة، إذ ولدت معظم الكيانات العربية التي نعرفها اليوم من رحم مخاض الصراع للتخلص من الوصاية والهيمنة الأجنبية التي حل محلها مشروع استيطاني صهيوني غاصب في قلب الوطن العربي، مدعوم من القوى الأجنبية نفسها، مضافاً إليها دخول الولايات المتحدة كطرف جديد يستكمل ويصون الثوب الذي فصّله البريطانيون والفرنسيون في المنطقة… لقد جلت جيوش الاحتلال والانتداب في فترات متفرقة من هذه الكيانات لتجد نفسها في حالة حرب مفتوحة، وإن لم تكن جارية دائماً مع الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين.
لذا حظيت النخبة العسكرية العربية منذ البداية بإجازة مفتوحة لحرية التصرف، وبالرضا الشعبي الذي يمنحها مشروعية التحكم بالسلطة بحجة الإعداد لمواجهة المشروع الصهيوني في المعركة الفاصلة الموعودة.
وتحت سقف هذه المشروعية، نمت سلطات عسكريتارية شديدة الوطأة، كرّست عملياً إلغاء الحريات العامة وحقوق الإنسان وتعطيل العمل بأحكام القانون لمصلحة أحكام الطوارئ، وأصبحنا في العديد من أقطار الوطن العربي أمام حقيقة الانتقال من إمكانية بناء جيش الدولة إلى دولة الجيش في المشهد السياسي.
وفي محاولة تفسير تفشي ظاهرة الانقلابات العسكرية في الوطن العربي قياساً بغيابها في المجتمعات الغربية، نستطيع فرز بعض العوامل الداخلية المندرجة في الميدان السياسي والاجتماعي والأيديولوجي، وفي مقدمتها غياب الولادة الطبيعية للدولة الحديثة بتعريف الفكر السياسي والقانوني الحديث، فالدولة في وطننا العربي أتت حصيلة تركيب سياسي هجين من دولة سلطانية تقليدية متسلطة، ضاربة الجذور في التكوين السياسي، ومن دولة «حديثة» موروثة عن الإدارة الاستعمارية: شكلية الحداثة، أو قل لا تتخطى فيها الحداثة عتبة الهياكل والنصوص «المنقولة»، إلى نظام قيم السلطة وثقافتها السياسية! مجال السياسة في هذه الدولة هو نفسه مجال السياسة والسلطة أو العكس: في النصوص يقع الاعتراف نظرياً بالفصل بين السلطات، لكن ذلك هو خلاف ما يجري واقعياً، فالقضاء ما زال يناضل من أجل نيل استقلاليته، والحكومات لا تزال محدودة السلطات وأشبه ما تكون ببلديات كبرى، أما المجالس النيابية، فقد خرج أكثرها من رحم وزارة الداخلية، ناهيك عن محدودية سلطة التشريع لديها، والأنكى والأمرّ أن السلطات تتركز في مركز واحد من الدولة ولدى نخبة ضيقة تزداد ضيقاً، وإذ تتهمش المؤسسات على ما يعتورها من عيوب وعاهات داخلية وتترك لأداء دور طقوسي صوري. أما في مجال التكوين الاجتماعي الثقافي في المجتمع العربي الحديث والمعاصر، فلم يؤد نمو وتوسع ما يمكن وصفه بالطبقة الوسطى منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، بسبب بعض برامج التنمية الوطنية التي رعتها سلطات الانتداب في محاولة لاستمالة شرائح اجتماعية للارتباط بها، أو عبر النشاط الصناعي أو التجاري، أو ما قامت به بعض النخب العسكرية في محاولات تنمية داخلية عبر الصناعات الكبرى والمتوسطة والإصلاح الزراعي وبرامج التعليم ومؤسسات الخدمات العامة … لم يؤد ذلك إلى تجاوز ضعفها في أداء دور سياسي يناسب حجمها الاجتماعي وأهميتها الثقافية. وبقيت مؤسساتها الحزبية وتنظيماتها السياسية محدودة الفعالية والتأثير.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى