الحالة الإسلامية المصرية بين “التنظير” و”التنظيم”…

من الاختزال المنهجي بمكان، أن يقصر البعض الحالة الإسلامية على جماعات الإسلام الحركي، التي تمر هذه الأيام بمنعطف تاريخي خطير بعد الأزمة الكبيرة التي تمرّ بها جماعة الإخوان المسلمين بمصر، في أعقاب عزل الجيش محمد مرسي عن منصب رئاسة الجمهورية.
ظهرت الحالة الإسلامية في العصر الحديث متمثّلة بمدرستيْن:

الأولى هي المدرسة الفكرية الإسلامية التي أسسها الإمام محمد عبده في مطلع القرن العشرين، ويُعد رشيد رضا ثم مالك بن نبي أبرز أعلامها، وقد ارتكزت رؤية هذه المدرسة على أن مشكلة العالم الإسلامي مشكلة فكرية – حضارية في المقام الأول – قبل أن تكون مشكلة سياسية – متمثّلة في انتشار التخلّف العلمي والمفاهيم الدينية الخاطئة، عبر سيادة التقليد، وغياب التجديد. فرأت تلك المدرسة أن العلاج يبدأ بالإصلاح الديني، والفكري، والتعليمي للمجتمع من أسفل، قبل ممارسة العمل السياسي. بعبارة أخرى رأت المدرسة الفكرية بأن الإصلاح الديني والفكري هو المقدمة الضرورية التي تمهّد الطريق أمام الإصلاح السياسي، فالأول هو الأساس لقيام الثاني.

ثم ظهرت بعدها المدرسة الحركية الإسلامية، التي أسسّها الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بمصر، والتي ارتكزت رؤيتها على أن الخطر الحقيقي هو المحدق بهوية العالم الإسلامي، والمتمثّل في الصراع بين الموروث والوافد، أو موجات التغريب الفكري والثقافي التي تتعرّض لها البلدان الإسلامية، وهو ما يتطلب ضرورة البدء بـ”أسلمة” البنية السياسية والاجتماعية للدولة والمجتمع.

إلا أن المفارقة التاريخية تكمن في أن المدرسة الحركية تمددت وانتشرت على حساب المدرسة الفكرية، ولهذا قيل إن محمد عبده قدّم مشروعاً إصلاحياً فكرياً… ثمّ جاء حسن البنا بمشروع حركي “قطع الطريق” على مشروع محمد عبده الفكري.

بعبارة أخرى قدّم محمد عبده “فكراً وتنظيراً”، ولم يقدّم “حركة أو تنظيماً”، فجاء حسن البنا فقدّم”حركة و تنظيماً” ولم يقدّم “فكراً أو تنظيراً”.

وما يسترعي الانتباه، أن كلتا المدرستيْن خرجتا من مصر، وعليه فإن مستقبل الحالة الإسلامية في المدى القريب والمتوسط، يرتبط بتحولاتها في مصر، إذ يقول التاريخ أن مصر وقفت دوماً في موقع “المُصدِّر” لمحيطها الإقليمي – وليس “المُستورِد”- لكل النماذج الفكرية والسياسية، التي ظهرت في المنطقة خلال القرن الماضي باختلاف تنويعاتها الإسلامية والليبرالية واليسارية والقومية.

وبإلقاء نظرة على أدبيات جماعة الإخوان المسلمين، نجد أنها نشأت بالأساس لمواجهة الإرساليات التبشيرية التي انتشرت في مصر في الربع الأول من القرن العشرين، ومن أجل استعادة “الجامعة الدينية” بعد سقوط الخلافة الإسلامية في العام 1924 بتركيا.

وكان لهذا العامل أكبرالأثر في ظهور عيب بنيوي “خلقي” في بنية جماعة الإخوان المسلمين وتكوينها تمثّل في طغيان البعد “التنظيمي” على البعد “التنظيري”، وتغوّل الشق “الحركي” على حساب الشق “الفكري” وامتدت هذه الآفة منها إلى كل جماعات الإسلام الحركي(1)

فمنذ نشأتها وحتى الآن تعاني جماعة الإخوان المسلمين من “فقر فكري” شديد، فمن يطالع أدبيات الجماعة القديمة يجد لها هدفاً وحيداً، ألا وهو بناء تنظيم قوي، ومتماسك، وعلى درجة عالية من الفاعلية، عبر استخدام خطاب تعبوي حشدي، يغلب على لغته طابع الحماسة وتجييش المشاعر.
وبمرور الوقت صارت الفكرة في خدمة التنظيم وليس العكس، حتى صار الحفاظ على التنظيم وتماسكه، وحمايته من الانشقاق، هو الهدف الأول للجماعة التي صارت أشبه بشخص مصاب بتضخّم في “العضلات” وضمور في “العقل” في آنٍ واحد. ثم جاءت بعض أفكار سيد قطب في فترة لاحقة، وتسرّبت إلى الجسد التنظيمي للجماعة، لتضفي عليه طابعاً “انغلاقياً” قائماً على “العزلة الشعورية”، و”الاستعلاء الإيماني”، هذا بالرغم من حرص قيادات الجماعة على التبرؤ الدائم من الأفكار التي أوردها قطب في كتاباته.

والأدهى أن الإنتاج الفكري للجماعة توقف تقريباً عند رسائل مؤسسها الأول، ولم يخضع مطلقاً لأي عملية مراجعة، أو نقد، أو تنقيح، بالرغم من مرور عقود طويلة على لحظة ولادته، وكان لهذا الأمر أثر كبير في إصابة الجماعة بـ”الجمود الفكري”، إذ اجتمع في تكوينها الفكري الفقر والجمود معاً، فمازالت الجماعة تقتات على أدبياتها القديمة التي أُنتِجت منذ عقود طويلة دون أي محاولة للتجديد.

وهو الذي انعكس على عملية التنشئة الداخلية لأعضاء الجماعة وكوادرها في الوحدات التنظيمية الإخوانية، وهي عملية ذات إتجاه أحادي من أعلى إلى أسفل وفقاً للتراتبية التنظيمية، والغالب عليها طابع التلقين والتحفيظ، من أجل خلق كوادر “تنظيمية” تخدم التنظيم، عبر إطاعة أوامر قياداتها. فالجماعة تهتم بالأساس بـ”التنشئة التنظيمية” لأعضائها، على حساب “التنشئة الفكرية” التي تغيب تماماً، وإن حضرت يكون حضورها شاحباً هزيلاً، كما أن المناهج التي يتم تدريسها داخل الوحدات التنظيمية للجماعة تخلط بين “عالم الأفكار” و”عالم الأشخاص”، عبر إضفاء هالة من القداسة على السابقين من الرعيل الأول، وما كتبوه في أدبياتهم، وهو ما يمنع خلق أي حوار جاد ذي طابع نقدي لتلك الأدبيات القديمة.

هذا إلى جانب أن هذه المناهج تخلو من أي إنتاج فكري، لأي مفكرين حتى من أبناء التيار الإسلامي نفسه، سواء أكانوا سابقين مثل مالك بن نبي، أو علي شريعتي، أو معاصرين مثل راشد الغنوشي.(2)

يضاف الى ذلك أن “قسم التربية” داخل الجماعة، هو المنوط به وضع مناهج التدريس داخل أسرها وشعبها، وهو نفسه الذي يتولى ترقية الأفراد داخل هيكلها التنظيمي، وفق درجات تبدأ بـ”محب”، وتمر بـ”مؤيد”، و”منتسب”، و”منتظم”، وتنتهي بـ”أخ عامل”، وهذه الترقية من درجة إلى أخرى، تتم بشكل “انتقائي” لا “تلقائي” وتكون وفق معايير خاصة، أهمها درجة ولاء وإخلاص الفرد للتنظيم ولقياداته.

وكانت محصّلة هذه العوامل عدم وجود مشروع فكري متماسك للجماعة،بمعالم واضحة، سوى خطاب هوياتي عاطفي، ومجرّد عناوين فضفاضة، يعلوها إطار هلامي.

الخلاصة هي أن جماعات الإسلام الحركي بمصر، تعاني منذ نشأتها من ضعف فكري شديد، وتضخم تنظيمي كبير، ومن تمدّد حركي، وهزال تنظيري.وهو ما يستلزم دخولها، في عملية مراجعة فكرية جادة وحقيقية، وليس تكتيكية، أو من أجل المواءمة الظرفية – والشاملة – وليس الجزئية – تتضمن نقداً ذاتياً مكثفاً، وعميقاً لأدبيّاتها القديمة التي مازالت تنتمي إلى عصر الخلافة، أو إلى عصر ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، من أجل بلورة رؤى فكرية واضحة، تحسم الجدل حول موقفها من القضايا الرئيسية المتعلقة ببنية الدولة الوطنية الحديثة وطبيعتها، مثل الديموقراطية، والمواطنة، والحريات، وثنائيات جدلية مثل الوطنية / الأممية، والحزبي / الدعوي؛ فمن الواضح تماماً أن هذه القضايا لم تُحسم داخل الجماعة، على المستوى الفكري، أو حتى التنظيمي، وتكون هذه العملية ضمن عملية أوسع من إعادة تأسيس كاملة، تكون على أساس جديد، يتخذ من الفكر أساساً ومرجعاً وليس التنظيم الحديدي.

وغنيٌ عن البيان، أن الحملة القمعية الإقصائية والاستئصالية الممنهجة، التي تتعرّض لها الجماعة مصرياً، وإقليمياً، ودولياً، لا تسمح مطلقاً بإقدامها على مراجعة فكرية حقيقية، وهي الخادم الأكبر لنشر التطرّف والتوجهات التكفيرية العنيفة بصفة عامة ولـ”صقور التنظيم” داخل الجماعة بصفة خاصة، ولاستدعائهم “خطاب المحنة”، من أجل الحفاظ على التنظيم وتماسكه.

ولكن حتى لو نجت الجماعة من هذه الأزمة، فإن صيغتها الحالية لا تتسق مطلقاً مع العصر، وهي تشبه إلى حد بعيد صيغة الأحزاب الشيوعية الأوروبية في لحظة ما قبل انهيارها، فقد كانت مجرّد تنظيم حديدي أجوف، ولن تكون نهايتها في هذه الحالة في يد أعدائها، وإنما بيد المخلصين من أبنائها من “كهنة التنظيم”. فقد انتهى عصر التنظيمات الحديدية المغلقة والأنساق الأيديولوجية المطلقة… ولكن أكثرهم لا يعلمون.

صحيفة النهار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى