الحرب إلى قلب فنزويلا | ترامب لـ«السي آي إيه»: اقلبوا النظام

في اعتراف صريح ينهي كل التكهّنات، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أنه أَذِنَ لوكالة الاستخبارات المركزية، بتنفيذ «عمليات سرّية» في فنزويلا، في ما وصفه الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، بأنه ضوء أخضر «لانقلاب تنفّذه السي آي إيه». ويمثّل الإعلان انتقالاً رسميّاً من الحرب الهجينة بالوكالة، إلى الحرب المباشرة التي تديرها أجهزة الاستخبارات الأميركية، وذلك بعد عقود من دعم المعارضة اليمينية وتمويلها، والتضييق الاقتصادي، والحصار البحري، وإغراق القوارب.
هكذا، سلّمت إدارة ترامب دفّة المواجهة علناً للجهاز الذي لطالما أدار عمليات تغيير الأنظمة في أميركا اللاتينية والعالم، ممهّدةً الطريق أمام مرحلة دموية جديدة عنوانها سحق الثورة البوليفارية، ونهب ثروات فنزويلا بدعوى «مكافحة المخدّرات».
وجاء إقرار ترامب بتورّط الوكالة، ليؤكد ما كانت تشير إليه كل الدلائل أصلاً، ويتوّج مساراً تصعيديّاً مدروساً؛ إذ سبق للإدارة الأميركية أن أعلنت أنها في «نزاع مسلّح» مع كارتلات المخدّرات في فنزويلا، وهو ما استخدمته كغطاء قانوني مزيّف لسلسلة من الهجمات البحرية التي أودت بحياة ما لا يقلّ عن 27 شخصاً في مياه الكاريبي.
لكنّ تصريحات ترامب الأخيرة، تذهب إلى ما هو أبعد؛ فعندما سُئل في مؤتمر صحافي عمّا إذا كان يفكّر في شنّ هجمات على أهداف برّية داخل فنزويلا، أجاب: «(إنّنا) ندرس مهاجمة أهداف على الأرض»، مضيفاً بلهجة لا تخلو من التهديد: «أعتقد أن فنزويلا تشعر بالحرارة الآن». وعندما ضغط عليه الصحافيون لمعرفة ما إذا كان منح وكالة الاستخبارات المركزية تفويضاً لاغتيال مادورو، تهرّب من الإجابة المباشرة، تاركاً الباب مفتوحاً أمام أسوأ الاحتمالات.
هذا التحوّل من عمليات عسكرية معلنة، إلى عمليات استخبارية سرّية، يمثّل تصعيداً خطيراً على مستويات عدّة؛ فهو ينقل قيادة العمليات ضدّ فنزويلا من «البنتاغون» إلى الـ»سي آي إيه»، ما يعني غياباً شبه كامل للرقابة والشفافية، إذ إن منطق العمليات السرّية للوكالة يشمل – تاريخيّاً – كل شيء، من تسليح قوى المعارضة وتمويلها وتدريب المرتزقة، إلى تنفيذ اغتيالات وتخريب منشآت حيوية وتدبير انقلابات عسكرية. كذلك، يمنح الإعلان، الوكالة تفويضاً مفتوحاً للعمل داخل الأراضي الفنزويلية، ما يعني أن الحرب لم تَعُد على الحدود، أو في المياه الدولية، بل انتقلت إلى قلْب البلاد.
على أن مبرّرات ترامب لهذا التدخل، لم تخرج عن سلسلة من الادّعاءات التي ردّدها مراراً، عن أن كاراكاس تفرج عن سجناء ومرضى عقليين لإرسالهم إلى الولايات المتحدة، وأنها تدير كارتيلات إتجار بالمخدّرات تصل موادها إلى الداخل الأميركي، علماً أن كل البيانات الرسمية، حتى من داخل إدارته، دحضت تلك المزاعم، ما يشير إلى محاولة مفضوحة لتبرير عدوان وشيك على دولة ذات سيادة.
وأثارت هذه السياسة العدوانية للولايات المتحدة تجاه فنزويلا، إدانة واسعة، ليس فقط من كاراكاس وحلفائها، بل من خبراء الأمم المتحدة الذين وصفوا الهجمات على القوارب بأنها «انتهاك صارخ للقانون الدولي وإعدامات خارج نطاق القضاء». واللافت أن هذا التهوّر بدأ يُحدِث شرخاً عميقاً داخل المؤسسة السياسية في واشنطن نفسها.
فالانتقادات لم تَعُد تقتصر على الجناح التقدّمي في الحزب الديمقراطي، بل امتدّت لتشمل شخصيات وازنة في الحزبَين، من بينها، السيناتور الديمقراطية جين شاهين، وهي عضو بارز في «لجنة العلاقات الخارجية» في مجلس الشيوخ، إذ قالت إن «إذن إدارة ترامب (حول فنزويلا) يدفع الولايات المتحدة نحو صراع مفتوح من دون شفافية أو رقابة أو أيّ ضوابط واضحة». وأضافت، في تحذير مباشر: «يستحقّ الشعب الأميركي أن يعرف ما إذا كانت الإدارة تقود الولايات المتحدة إلى حرب أخرى تعرّض حياة أفراد الخدمة العسكرية للخطر، أو تسعى إلى عملية تغيير نظام».
والواقع أنه خلف ستار الدخان الكثيف لدعاية «الحرب على المخدّرات»، تكمن الدوافع المادية الحقيقية التي تحرّك شهية واشنطن للحرب. ففنزويلا تُعدّ جائزة جيوسياسية واقتصادية كبرى، إذ تمتلك أكبر احتياطي مؤكّد للنفط في العالم، بما يمنح مَن يسيطر عليه نفوذاً على أسواق الطاقة العالمية، قد يفوق الدور الذي تلعبه السعودية حالياً. كما تمتلك مخزونات هائلة من الذهب والمعادن الاستراتيجية، من مثل الكولتان والبوكسيت، التي تُعتبر حيوية للصناعات التكنولوجية المتقدّمة.
أمّا «الجريمة» التي ارتكبها التشافيزيون، فهي أنهم شكّلوا حجر عثرة أمام الهيمنة الأميركية، ليس فقط من خلال تبنّي خطاب اشتراكي، بل عبر ترجمته إلى سياسات ملموسة: تأميم قطاع النفط، وطرد الشركات المتعدّدة الجنسيات، ومراجعة العقود المُجحِفة مع الشركات الغربية، واستخدام عائدات الثروة الوطنية لتمويل برامج الصحة والتعليم والإسكان التي انتشلت ملايين الفنزويليين من ربقة الفقر.
ولعلّه من اللافت أن التصعيد الأميركي الأحدث، يأتي على خلفية ما كُشف أخيراً، عن أن حكومة مادورو عرضت، عبر قنوات دبلوماسية سرّية، إبرام صفقات وشراكات مع شركات نفط أميركية لزيادة الإنتاج مقابل تخفيف العقوبات، وهو ما رفضته واشنطن بشكل قاطع، وأصرّت على رحيل النظام. ويثبت ذلك أن المسألة تتجاوز مجرّد الوصول إلى النفط، لتصبح قضيّة سيطرة كاملة على القطاع النفطي الفنزويلي والقرار السياسي في كاراكاس في آن واحد.
وفي مواجهة هذا التهديد الوجودي، تصعّد الحكومة الفنزويلية استعداداتها الدفاعية، محاولةً تحويل التهديد الخارجي إلى فرصة لإعادة التعبئة الداخلية. وفي هذا السياق، أمر مادورو بإجراء مناورات عسكرية في أكبر الأحياء الشعبية (الباريوس) في البلاد، والتي تُعدّ معاقل الدعم التاريخية للتشافيزية. وتهدف هذه الخطوة إلى إيصال رسالتَين: الأولى إلى واشنطن، ومفادها أن أيّ محاولة للتوغّل برّاً ستواجه مقاومة شعبية منظّمة ومسلّحة، وليس فقط من الجيش البوليفاري النظامي.
والرسالة الثانية إلى الداخل، وهي محاولة لإعادة إحياء عقيدة «التحالف المدني – العسكري» التي تشكّل أساس استراتيجية الدفاع البوليفارية، وإذكاء شعلة الحماس الثوري الذي خفت بريقه بفعل الأزمة الاقتصادية. وكان أعلن مادورو بالفعل تعبئة الجيش والشرطة والميليشيات المدنية للدفاع عن كل شبر من الأراضي الفنزويلية، من «الجبال والسواحل، إلى المدارس والمستشفيات والمصانع».
صحيفة الاخبار اللبنانية