الحرب والاقتصاد : رحلة في أسواق دمشق القديمة..( 2 )

أصابت قذيفتا الهاون اللتان سقطتا على دمشق القديمة امرأتين بجراح متوسطة، ولم يقع ضحايا، لكن أسواق دمشق القديمة لم تحرك ساكنا، يمكنك أن تستمر في سماع صوت بائع التوت الشامي وهو ينادي على عصيره البارد عند عتبة المسكية، ويمكنك أن تشاهد الحركة الراجعة من النوفرة باتجاه المسجد الأموي وكأن شيئا لم يحصل، وعلى مسافة قصيرة في طريق العودة إلى الأسواق من جهة القباقبية تشاهد عددا من محلات الصاغة، وأصحابها يرتبون المجوهرات على الواجهات، وقد دون بعضهم بخط واضح أسعار الذهب بالغرام..

تتابع السير نحو البزورية، فإذا أنت في سوق فرعي ضيق تفوح منه روائح البهارات والصابون والزعتر، وترى البائعين يرتبون البضائع ويزينون الواجهات وكأنها شيئا من أرواحهم ..

إذن الطريق إلى البزورية آمن، والقذيفتان اللتان سقطتا بعيدتان نسبيا، ربما في حارة الجورة القريبة .. السوق لايعكر صفوه شيء .. تقطع المسافة القصيرة فتأسرك فيها الخفايا التي تخبؤها الدكاكين الصغيرة التي لاتتجاوز مساحتها ثلاثة أمتار مربعة ، تشاهد في بعض هذه المحلات أكياس وصناديق السكاكر الشعبية والراحة بالفستق التي لم يتغير طعمها منذ مائة عام، وتشاهد أيضا بعض أنواع الموالح وأكياس صغيرة من البهارات والعصفر والزعتر وأعواد القرفة والنعناع ، وثمة رزم من قمر الدين ..

في قلب هذا السوق الصغير هناك مدخل فرعي إلى سوق زاه تجد فيه كل ما تحتاجه النساء من ملابس وإكسسوارات وكلف وخيطان وفيه الكثير من الموديلات التي لاتجدها حتى في شارع الحمراء ، تتركه وأنت تسأل عنه ، فيأتيك الجواب :

ــ هذا سوق العرايس..

وأنت لم تصل بعد إلى البزورية، فعندما تنعطف يسارا نحو قصر العظم لتصل إلى البزورية تستغرب هذا التجمع من الناس أمام بائع العطر، فالعطارين في دمشق القديمة يبيعون خلطاتهم ويستمرون في صنعتهم رغم انتشار عبوات العطور الأجنبية من الماركات العالمية بأقل من نصف دولار ..

هل هناك من يفكر بالعطر في أجواء هذا الحرب اللعينة؟ هل يمكن للناس أن تشتري عطرا في وقت زاد غيه سعر الخبز أربعة أضعاف وارتفعت فيه الأسعار عشرة أضعاف وزادت فيه الرواتب والأجور ثلاثة أضعاف فقط ؟؟!..

يقول لك البائع، وهو يحاول الانشغال عن فضولك : زاد استهلاك العطر في دمشق بعد اندلاع الحرب عدة أضعاف..ويحسم إجابته بعبارة :

ــ ((الناس فايقة ورايقة .. مابتروح غير ع الموتى)) !

وعندما تدقق في الموضوع تقرأ لافتات عن بناء أول معمل للتعبئة الصناعية للعطور العالمية في دمشق .. نعم هذا يحصل بعد ست سنوات على بداية الحرب! فجأة، ومن جديد : بوم .. بوم .. !

لم ينتبه أحد إلى القذيفتين الجديدتين، فقد سقطتا بعيدا عن الأسواق، لكن الغريب يخاف وتبحث عيناه عن الدخان دون فائدة ، فقد وقعتا حيث وقعتا، وإذا كان المر يهمك : اتصل بمن تحب لتتأكد أنه لم يصب، وكفى الله المؤمنين شر القتال !! ..

أول محل صغير في البزورية هو محل أبو حسان المهرة، وهو يبيع بضائعه أبا عن جد، وبإمكانك أن تشتري من هذا المحل: جوزة الطيب والنباتات اليابسة والوصفات النباتية للأمراض الشعبية ومستلزمات السحر وغير ذلك، والغريب أن عمق المحل هو متر واحد على عرض لايزيد عن مترين، وكأن المحل عتبة بيت دمشقي عتيق..

في سوق البزورية تجد كل شيء: كل أنواع البزورات والسكاكر والبهارات والفواكه المجففة والملبس الذي كان يشتغل به والد الشاعر الراحل نزار قباني، وكما تجد القضمامة على سكر واللوز والجوز والفستق الحلبي المبشور وجوز الهند، إسأل : فيقول لك البائع :

ــ تفضل .. موجود ..

عالم يذكرك بتجارات طريق الحرير القديمة عبر آلاف السنين .. ورغم أن الناس مشغولة ببضائعها، يمكنك أن تعود إلى الذاكرة قليلا، فعند أول مدخل البزورية هناك ((مصلّبية)) يحكى أن دكان البديري الحلاق كانت فيها، وفي هذا المكان دوّن البديري أخبار دمشق في أجمل كتاب عن يوميات حلاق يكتب التاريخ في العالم ..

يسرح خيالك بعيدا في التاريخ، فتنسى البزورية، رغم أن عبق البهارات وروائح العطور تنقلها إليك نسمات الهواء في الأسواق المجاورة، وتتذكر المسجد الأموي من جديد ومعناه في التاريخ الدمشقي، وتأخذك الذاكرة أيضا إلى الشارع المستقيم الذي يلاقيك عند آخر محلات البزورية فيحضر شاؤول في حملته العسكرية على القديس حنانيا مؤسس أول كنيسة في التاريخ، والذي كان ينشر المسيحية في دمشق، وترى شاؤول وقد ملأت القشور عينيه، ثم ترى حنانيا وهو يعالجه : المعتدى عليه يعالج المعتدي، ثم تراه، أي ترى شاؤول، وقد آمن وأصبح اسمه بولس أحد أهم رسل المسيحية في العالم ..

يا الله .. أي حكايات تحكيها دمشق !

تسأل نفسك عن الحرب والتاريخ والإيمان ، ثم يواجهك سؤال غريب من العصر الحالي يقول :

ــ هل تنتهي الحرب في سورية ؟!

وقبل أن يأتيك الجواب من داخل عقلك ، تعيدك الأصوات إلى البزورية، فقد تعالت الترحيبات بفنان شاب من نجوم مسلسل شامي .. تسمعهم وهم يرحبون به :

ــ تفضل أستاذ .. شو عم تصوروا جزء جديد من مسلسل خاتون ؟

ــ ماشفناك السنة بمسلسل باب الحارة ؟!

يرفع الفنان يده مرحبا ويبتسم .. يبتسم وكأن الحرب هي في كتاب، وكأن الموت الذي يحصد السوريين ويدمر حضاراتهم المتتالية هو حكاية مكتوبة في كتاب مرمي على طاولة في مطعم للبيتزا !

تعود إلى المسجد الأموي ، تقرر أن الرحلة تستحق أياما متتالية .. تتداخل الصور في رأسك ، ثم تجد نفسك مع أذان الظهر على عتبة المسجد الأموي، وقد تدفق المئات إليه ونزلت من حافلات قريبة موجات من السائحين الإيرانيين ..

الله .. الله يادمشق : من رماها بحجر رماه الله بسهم من نار !

ملاحظة :

كُتبت هاتان الحلقتان عن أسواق دمشق دون العودة إلى مراجع ، وكانتا بمثابة انطباعات في رحلة حقيقية في الأمكنة التي وردت ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى