الحرية حياة والديمقراطية حوار وقبول الآخر (عامر راشد)

 

عامر راشد

في زحمة الأحداث الدموية والخلافات العارمة، التي تعيشها العديد من البلدان العربية، تبرز حاجة ملحة لتحديد الكثير من المفاهيم المستخدمة في ساحات الصراع، والتدقيق في أشكال توظيفها الإيديولوجي، الذي يصل عند البعض إلى مستوى ابتذال فكري وسياسي، يسوغ القتل وممارسة أقسى أنواع العنف.
ضرورة تحديد مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية والمساواة والتعددية ودولة المؤسسات، ربطاً بطبيعة المشكلات والقضايا التي تطرح نفسها في بلدان"الربيع العربي" والبلدان العربية الأخرى، حسب خصوصية كل بلد من تلك البلدان، ليست من قبيل الترف الفكري والسياسي كما يحاول البعض تقديم أو تصوير الأمر، بل قضية ذات أولوية كي لا تبقى تلك المفاهيم خاضعة لسطوة الأفكار السائدة في ظل عهود من استبداد مجتمعي وسياسي شوهت، بدرجات متفاوتة، معاني وقيم الحرية والديمقراطية والنظرة إلى العمل الحزبي والسياسي والعلاقة بين السلطة والمعارضة.
بادئ ذي بدء، إن مفاهيم الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، وغيرها من المفاهيم ذات الصلة، لا يمكن تحديد أو تلمس معانيها إلا في ظل وجود نظام وبنية قانونية ودستورية، تكون هي المقياس لمستوى الحريات الممنوحة وتطبيقاتها الديمقراطية، والتي هي بدورها أيضاً مرتبطة بوجود دولة مؤسسات، كلما تعمقت بنية الدولة المؤسسية، تحت مظلة احترام حقوق المواطنة وسيادة القانون والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، تتعمق بالمقدار نفسه الحرية باعتبارها تمتع الفرد بكامل حقوقه المدنية، وتتحقق تجليات الديمقراطية في ممارسة حق المشاركة في الحياة السياسية عبر حرية الانتماء الفكري أو الحزبي، واحترام رأيه في اختيار نظام الحكم، ومن يمثلونه فيه، عن طريق الانتخابات.
ولا يمكن أن نتخيل حقوق مواطنة دون دولة مؤسسات، كما لا معنى لدولة مؤسسات دون صون حقوق المواطنة. ويتحدد مفهوم الحرية الفردية والديمقراطية، في شكل أكثر وضوحاً وفي الإطار العملي الملموس، في التطبيق الاجتماعي للحرية والديمقراطية، الذي يحولهما إلى قدرة إيجابية بناءة. غير أن مفهوم الحرية في المجتمعات العربية مازال مفهوماً إشكالياً، وتفسيراته المتناقضة، لجهة الوعي بمعنى الحرية وتطبيقاتها، تلقي بثقلها على الثورات والحراك الشعبي.
يحضر في هذا المقام تأكيد المفكر العربي عبد الله العروي، في كتابه "مفهوم الحرية"، أنه "إذا نظرنا إلى الحرية في نطاقها التاريخي وجب علينا أن نعترف بأن المؤشرات عليها في البلدان العربية ضعيفة، لكن المجتمع العربي مليء بصدى دعوة متجددة للحرية، وبدأ بعض عناصر ذلك المجتمع يتعمقون في مفارقات مفهومها، مفارقات تقود حتماً إلى الوعي بمنزلق تشخيصها في دولة معينة، في نظام معين أو فرد معين".
ويضيف: "المهم في قضية الحرية هو أن تبقى دائماً موضوع نقاش، بوصفها نابعة عن ضرورة حياتية، لا بوصفها تساؤلاً أكاديمياً.. مهما تنوعت صورة الحرية، يبقى البحث فيها وسيلة للاحتفاظ بها على رأس جدول الأعمال، لأن الوعي بقضية الحرية هو منبع الحرية..".
وتكمن أهمية ما أكد عليه العروي أنه جاء في سياق استشراف المستقبل قبل حدوث ثورات الربيع العربي، فكتاب "مفهوم الحرية" صدر عام 2003 عن المركز الثقافي العربي، في وقت كانت فيه تدلل كل المؤشرات على تداعي الحالة الرسمية العربية، ويزاد قمع واستبداد أنظمة الحكم، وتغول المؤسسات الأمنية واضمحلال الهوامش الديمقراطية، وتزوير الانتخابات وتلفيقها، وبروز ظاهرة توارث الحكم في العديد من الأنظمة الجمهورية، وتدجين الأحزاب الرسمية المعارضة تحت جناح الحزب الحاكم (شكلياً). وبالمقابل بروز مجموعات راديكالية متطرفة في صفوف "الإسلام السياسي"، كان المستفيد منها أنظمة الحكم المستبدة، التي وضعت المجتمعات العربية المتطلعة للحرية والديمقراطية أمام سلاح ذي حدين: إما الإرهاب والفوضى وعدم الاستقرار في حال حدوث حراك شعبي معارض، أو القبول باستمرار وبقاء أنظمة الاستبداد والفساد السياسي والاقتصادي المنظم.
وبسقوط العديد من رؤوس تلك الأنظمة كان يفترض أن يسقط هذا السلاح، لولا أن الثورات وقفت في منتصف الطريق لعاملين رئيسيين: الأول ضعف الوعي بقضية الحرية ومحدداتها وعكسها في التجارب على الأرض. والثاني عدم إدراك أن سقوط رأس النظام لا يعني سقوط نظام الحكم بأكمله، ما يعني أن الثورات ستبقى بعيدة عن تحقيق هدفها الرئيس، الحرية والديمقراطية، طالما لم تقم دولة مؤسسات.
هذا يعيدنا إلى بديهية أن مفهوم الحرية ما زال إشكالياً في المجتمعات العربية، وأن لا وجود لحقوق مواطنة دون دولة مؤسسات، كما لا معنى لدولة مؤسسات دون صون حقوق المواطنة. ودون الترابط الجدلي بين مفهوم الحرية ودولة المؤسسات لا يمكن خلق آليات عملية لمفهومي الحرية والديمقراطية.
وفي إسقاط إشكاليات المفاهيم على واقع ثورات "الربيع العربي" والحراك الشعبي، وموانع الوصول إلى تجسيد الحرية والديمقراطية، يعوزنا الاعتقاد كمجتمعات بأن الحرية حياة، ما يفرض أن تكون القاعدة الرئيسية رفض القتل والعنف، حتى في مواجهة عنف السلطة يجب أن تضبط ردود الأفعال إلى أقصى درجة، لأن سلمية أي حراك شعبي أقصر الطرق للوصول إلى الحرية والديمقراطية، وليس تخاذلاً كما يدعي البعض، فمن يدفع للعنف ويستفيد منه هو الأنظمة الاستبدادية، لخلط الأوراق والحفاظ على النفس، وتبرير قمعها ودمويتها.
ويعوزنا أيضاً الإيمان بأن جوهر الحرية والديمقراطية يتمثل في اعتماد مبدأ الحوار وقبول الآخر، والمقصود بالآخر هو المتطلع إلى الحرية والديمقراطية لكن لديه وجهة نظر مخالفة أو مخاوف، ربما تدفعه للاصطفاف إلى جانب نظام الحكم في بعض الحالات، أو بقايا نظام الحكم في حالات أخرى، وعدم معالجة ذلك من خلال الحوار يقود إلى عنف مجتمعي، قد يصل إلى مصاف حرب أهلية عندما ينقسم المجتمع بين أغلبية وأقليات، دينية أو طائفية أو جهوية أو إثنية، تشوب العلاقات بينها عوامل الشك وعدم الثقة.
ولإبعاد شبح الانقسام المجتمعي الحاد، وتلافي محذور الحرب الأهلية، ثمة حاجة ملحة لتحديد الكثير من المفاهيم المستخدمة في ساحات الصراع، والتدقيق في أشكال توظيفها الإيديولوجي، الذي يصل عند البعض، سلطة أو معارضة، إلى مستوى ابتذال فكري وسياسي، يسوغ القتل وممارسة أقسى أنواع العنف. وبوابة الخروج من هذا النفق وزحمة الأحداث الدموية والخلافات العارمة إدراك أن رفعة الأوطان بحياة أبنائها وليس بقتلهم، وأن عدم قبول الآخر إنكار للذات ولأبسط مبادئ الحرية والديمقراطية، فالذات هو الآخر في مرآة الوطن الواحد، وفي العلاقات الإنسانية بين شعوب البشرية.


وكالة أنباء موسكو

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى