كتب

«الحرّيف» محمد سعيد احجيوج!

منير الحايك

عندما تكون كاتباً بارعاً، وقارئاً متعمّقاً، تشتغل في النقد إلى حدّ ما، وتريد أن تنقد تقنيةً روائية أو نوعاً أدبيّاً ما، وتريد أن تقدّم نصّاً روائيّاً مختلفاً في آن… نصّ تدمج فيه النقد وعلم النفس وآراء سياسية أو قومية أو اجتماعية، وتقدّمه بوصفه نوعاً مختلفاً أيضاً، فيكون رواية قصيرة، أي نوفيلّا، يجدر بك أن تقوم بما قام محمد سعيد احجيوج في روايته القصيرة (نوفيلا) «كهف الألواح» (نوفل ـــ 2024).هل هو التجريب، أم هي الكتابة على طريقة المابعد حداثويّ، أم هي الكتابة التقليدية الصعبة والمُتقنة، لا نريد الخوض في التصنيفات، ولكن لا بدّ من الخوض في تفاصيل النصّ المربِك والمتشابِك والشيّق، والمُدهِش، أو فلنقُل دائم الإدهاش، لمرات عدة في أثناء قراءته.

هي قصّة خلود، وآزاد، وفي مواضع مختلفة قصة إيزل، ومعهنّ، أو فلنقل معها، يظهر المحقق وعدنان الطفل والرجل، والإسباني والعميد وهند وخطيبها، وهشام. تتداخل الحالات والشخصيات، وتختفي واحدة لتظهر أخرى، تظنّها رواية متداخلة الشخصيات من أزمنة مختلفة، إلى أن تكتشف الأمر رويداً رويداً. لا تجعلك الرواية تنتظر كثيراً لتعرف الحال المسيطرة.

لقد أراد النص، أو فلنقل كاتبه، أن يقدّم نصّاً جديداً ومشغولاً بطريقة احترافية، ولكنه أيضاً أراد إظهار عدة وجهات نظر خاصة به نحو أمور عدة ومختلفة. فهو يقدّم منذ البداية وجهة نظر حول الذاكرة، وأهمية الذاكرة من وجهة نظر علم النفس، لكن من دون الرجوع إلى نظرياته ومنظّريه، بل بالاعتماد على الخلاصات التي وصل إليها الكاتب واقتنع بها، فقالتها الشخصيات وكرّرتها، وخصوصاً خلود أثناء بَوحها واعترافها المطلوب من المفتّش، الذي لا نعرف حتى نهاية النص إن كان مفتّشاً أم طبيباً. لعلّ أبرز مواقف الكاتب المغربي من الذاكرة أنها وهم، وهي ليست سوى إعادة بناء لأحداث حصلت، وقد عبّر عن ذلك منذ بداية النص: «الذاكرة وهم. خلود متأكدة من ذلك. نحن بارعون في اختلاق الذكريات. استرجاع الذكريات خلق لها، تزييف لها. كل ما نسترجعه محض وهم. أكاذيب (ص16)». ويستمر تكرار هذه الفكرة بشكل دائم حتى نهاية النصّ: «ألم أقل لك سيّدي المفتّش كم هي غامضة أمور الذاكرة؟ (ص106)».

ولعلّ سيطرة حالات الاختفاء والظهور لدى الشخصيات، أو المرأة المتعددة الشخصيات، هي الأساس للجوء النصّ إلى الطب النفسي المرتبط بالاضطراب النفسي، وبالذاكرة عندما تقرر إمراضنا أو شفاءنا، لكن كان للنصّ همّ آخر أيضاً من موضوع الذاكرة، هو همّ الناقد. إذ انتقد النصّ من دون أن يسمّيه، تيّار الوعي أو التداعي الحرّ بوصفه أسلوباً أو تقنية تعدّ من التقنيات الحديثة في كتابة الرواية، فقد كرّر موقفه من الذاكرة، لكنّه مرّر موقفه أيضاً من استحالة تذكّر أبطال الروايات لكلّ تلك الذكريات التي تحمّلهم إياها الكثير من النصوص الروائية، فيقدّم الكاتب موقفاً نقديّاً أدبيّاً، تكمن أهميته في الأسلوب الذي تمّ تقديمه فيه، فالمتلقّي تصله تلك الفكرة بأسلوب سلس وبسيط، وهو يلاحق أحوال الشخصية بتأنّ مترافق مع إدهاشات متلاحقة، علّه يقرر من هي الشخصية الحقيقية. وفي أثناء تلك الملاحقة الشيّقة، يفهم موقف الكاتب النقديّ من دون أي ملل.

تدخل قصة سارة اليهودية في النصّ من دون أن نجد لها تفسيراً. سارة التي أصبحت قاتلة محترفة لدى الموساد، تفشل في اغتيال علي حسن سلامة ويُقتل رجل مغربي عن طريق خطأ استخباراتي. قصة سارة أو أماري، ومن قبلها قصة أمها في حبّ شابّ مسلم، تبقى غير مبررة إلى أن يخبرنا النصّ أنّ عدنان كتب رواية وهو يحاول استعادة ذاكرته: «رواية غريبة تجمع أزمنة متعددة وحكايات من عالم الجاسوسية والتاريخ ومشاهد من حكايتي الشخصية (ص107)».

إنّ لجوء الكاتب إلى الرواية القصيرة أو النوفيلا في هذا المشروع الكتابي، الروائي، بالتحديد ليس وليد مصادفة، فالقصة والتنقّل بين حالات الشخصيات، والبحث عن الحقائق معها، وتركيزه على قصة واحدة متشعّبة، بين خلود وآزاد ومن معهما، كان لا بدّ لها من بعض الإطالة، فلا يمكن أن تُكتب في قالب القصة القصيرة، وكان لا بدّ لها من نهاية في مكان ما حتى لا يشوبها الملل والتكرار، رغم التكرار الخادم للقضايا وللتقنية ولعلم النفس المسيطر، فلم تكن الرواية الطويلة مناسبة أيضاً. وهنا تكمن براعة الكاتب الذي حبك لنا قصصاً متداخلة، أدخلنا في نفسيات شخصياتها، المقنَّعة بأنها شخصيات مختلفة. ومع دخولنا عوالمها، نمرّ داخل عوالمنا الخاصة من دون أن ندري، وهنا الأساس في الجديد والتجديد.

إنه نصّ روائي جميل ومتقن، نوفيلا أم رواية، الأمر سيّان عندما يرتبط بنصّ مُتعِب للمتلقي، فكيف كان التعب الملقى على عاتق الكاتب! وقد حافظ على لغة متينة وسلسة في آن، ولم يربكه التنقل بين الشخصيات، بل كان الجهد المبذول واضحاً وجليّاً، فالدهشة المتكررة، والاستمتاع الدائم، والتفكير المستمر، والنقاش الذي خاضه المتلقي مع نفسه حول القضايا المطروحة، تُثبت ذلك الجهد، لأنّ نجاح هذا النصّ الشائك والمعقّد بأن يُقرَأ بمتعة، هو الدليل الأهم على نجاح الكاتب، وعلى قدراته غير العادية.

إنه نصّ قويّ ومشغول بحرفية عالية، طرح قضايا قد لا تجتمع في نصّ قصير آخر، مثل المثلية والاغتصاب والجاسوسية وعلم النفس والاضطرابات النفسية، والأمومة والزواج والعلاقات… إضافة إلى حضور الهموم الوطنية والقومية الكبيرة، من دون ابتذال أو ركاكة أو استسهال.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى