الحزب يرعُد في موسكو..أين ستُمطر؟
كان العام 2015 حاسما في الحرب السورية. قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: ” لا يحقّ لأي أحد أن يفرض رأيه على الشعب السوري وأن يقرّر هيكلية الحكم ومصير الرئيس، واننا لا نطعن شركاءنا بالظهر” . طافت صورة بوتين مع مُرشد الثورة السيد علي خامنئي العالم، وتحتها سطرٌ واحد يقول :” ان وجهتي نظر روسيا وإيران متطابقتان حيال سورية” فكان انخراط البلدين العسكري بقوة على الأرض السورية وقلب المُعادلة ضد حلف الأطلسي والدول الأخرى ( وبينها عربية) الساعية لاسقاط الرئيس بشار الأسد بالقوة.
يُشبه المشهدُ آنذاك تماما، صورة وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف وهو يستقبل أمس وفد حزب الله بقيادة أحد أكثر رجاله معرفة وحنكة بشؤون المنطقة ولبنان، الحاج محمد رعد. فالصورة الاحتفالية القادمة من موسكو مُذيّلة هذه المرة أيضا بعبارة :” ان وجهتي النظر متطابقتان”. وهو ما يعني حتما ليس فقط حيال لبنان وانما أيضا كيفية مواجهة سياسة الإدارة الأميركية الجديدة التي تحدثت كثيرا عن الدبلوماسية حيال إيران، لكنها سُرعان ما أبرزت مخالبها وأنيابها بالقصف في سوريا وبوضع لائحة عقوبات جديدة على مقرّبين من الاسد، وبوصف النظام الروسي بقيادة بوتين ب ” الفاسد والمهدد لمصالح الغرب“.
أوليس وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نفسه من جاهر عام 2015 من قلب بيروت حين كان نائبا لوزير الخارجية ان لا مكان للأسد في التسوية السياسة وأن لا قبول باستمرار تقديم حزب الله شريان الحياة للأسد؟ . لم يتغير شيء في العقل الأميركي سوى أن الوقائع السورية فرضت معادلة جديدة.
الواقع أن مُشكلة روسيا وحزب الله متطابقة هناك بالضبط، اي في كيفية النظرة الى السياسة الأميركية التي تُعطي من طرف اللسان حلاوة في الملف الإيراني لكنها حتما ستكون أكثر قسوة وتشددا ومواجهة في الملف السوري وفي التعامل مع حزب الله في لبنان وفي الإبقاء على أولوية الحفاظ على أمن اسرائيل.
فلاديمير بوتين ليس عدوا لاسرائيل. على العكس تماما، هو أكثر رئيس روسي قربا منها وأكثر رئيس روسي خدم الجالية اليهودية في بلاده باعتراف الحاخام الروسي الأكبر، فمعه ” بدأ عصر جديد بين روسيا واسرائيل” وفق ما قالت صحيفة “لاتريبون جويف” الفرنسية اليهودية. إيران وحزب الله يُدركان تماما ذلك، وتكيّفا تماما معه، طالما أن مجالات التعاون بين الطرفين واسعة جدا وواعدة جدا، ليس الآن فقط، وإنما على المدى الطويل وسط عودة انقسام العالم وعلى نحو أكثر حدة من أي وقت مضى بين الأطلسي من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية. التبادل الروسي الايراني الذي يطمح البلدان الى إيصاله الى 10 مليارات دولار، توسع أمنيا وسياسيا واقتصاديا، من بحر قزوين وقمة شنغهاي الى افغانستان والشرق الأوسط ومعابر النفط والغاز وغيرها.
لبنان مُهم طبعا في زيارة وفد حزب الله الى موسكو. لكنه حتما ليس الأهم في الصراع الأوسع وتوازن القوى. كان بوتين نفسه قد عبّر غير مرة عن إعجابه بتقنيات وقدرات قتال حزب الله على الأرض السورية، وهو أيضا من يتعامل مع الرئيس سعد الحريري كصديق ووديعة من صديقه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فلم يلتق سيد الكرملين أي مسؤول أو قيادي عربي بقدر ما التقى سعد الحريري. لذلك فوساطته في الملف اللبناني قد تكون أفضل من غيرها لكنها حتما لا يُمكن ان تكون حاسمة.
يُدرك بوتين أيضا ، أن الحزب الذي يستقبله بهذه الحفاوة في موسكو، هو أحد أبرز مُحرّكات إزعاج أميركا في المنطقة، لا بُد إذا من ” تزييت” كل الأسلحة لمواجهةٍ تبدو حتميةً. إن وقعت يكون الاستعاد لها قائما، وإن لم تقع ، فهذا سيكون ورقة مهمة للتفاوض الدولي لاحقا. والحزب يعرفُ أنه كلّما عمّق علاقاته مع روسيا والصين، مُباشرة أو من خلال إيران، ستكون أوراقه أكثر قوة على مستوى لبنان والمنطقة.
بوتين وسلام المنطقة؟
لكن اقتصار الأمر على ما تقدم، يبدو قصرا في النظر. فالرئيس الروسي يسعى الى هامش أوسع بكثير من لبنان وسورية. يريد علاقات قوية مع دول الخليج، ومع تركيا واسرائيل ، ومع مصر والمغرب وأفريقيا. هو نجح الى حد جيد في كل هذا، ولعلّه يرى الآن الفرصة أكثر من ممتازة لتوسيع الأفق أكثر. وقد كانت جولة لافروف الى الامارات والسعودية وقطر في الأيام الأخيرة مثمرة جدا، وباعثة رسائل ثنائية كثيرة صوب أميركا. فالخليج قلقٌ من جو بايدن، وإسرائيل تخشى العودة الى الإتفاق النووي، ناهيك عن أن موسكو احتلت في السنوات الماضية مركز ثاني أكبر مصدر للسلاح في العالم ، ولها مصالح غازية ونفطية تقرّبها من دول المنطقة.
بهذا المعنى، فان بوتين الذي رفع منذ مؤتمر ميونيخ للأمن في العام 2007 شعارات واضحة لجهة القول :” نحن لا نريد معاداة أميركا ولكننا لا نقبل ان نكون أتباعا وانما شركاء واصدقاء وأنداد”، لا يرغب بالحروب والقتال، وانما يريد توسّع الدور الروسي بالدبلوماسية، ويرغب بنهضة اقتصادية في بلاده وعند الحلفاء، خصوصا أن السنوات العشر الأخيرة كانت قاسية الى حد الاختناق. ويريد خصوصا افهام أميركا أن عصر الأحادية ولّى الى غير رجعة، فلا بأس أن يكون حزب الله جزءا من المعادلة.
لكن موسكو الساعية الى تجميع القدرات وتعزيز التحالفات لصد الهجمات الأميركية المحتملة، تعمل أيضا وبقوة على العودة الى لغة الدبلوماسية والحوار مع بايدن وغيره. ولا يخفى على أحد الرغبة الحقيقية عند القيادة الروسية باعادة اطلاق مسار سلام عربي إسرائيلي على قاعدة الدولتين وعلى مبدأ السلام مقابل الأرض وليس السلام مقابل السلام.
كانت القيادة الروسية سبّاقة في طرح مسالة اعادة المفاوضات السورية الاسرائيلية الى مسارها. هي التي قالت للأميركيين في مطلع الحرب السورية إن استقرار سوريا وبقاء الدولة هما الطريق الأسلم لذلك وللحفاظ على أمن اسرائيل، وهي التي نسّقت مؤخرا قضية تبادل الاسرى بين اسرائيل وسورية، وهي الطامحة للعب دور وسيط، اعتقادا منها بأنها قريبة من كل أطراف الصراع وليست طرفا خلافا لما هو حال أميركا.
شيءٌ من هذا يُمكن ان تُناقشه موسكو بعمق مع حزب الله وقبله مع إيران. ذلك أن الجبهة الجنوبية لسورية خضعت سابقا لتسويات بعيدة عن الأضواء، كان لموسكو الدور الحاسم فيها بين سوريا وايران وحزب الله من جهة واسرائيل من جهة ثانية. والجبهة الجنوبية للبنان وما يدور حولها في الوقت الراهن من سعي لاستخراج الغاز وترسيم الحدود، يُمكن أن تُشكّل محور اهتمام روسي كبير، للعب دور وساطة أيضا.
باختصار. ان زيارة وفد حزب الله الى موسكو ليست أمرا عابرا ولا تقتصر على لبنان، وإنما هي جزء من استراتيجية أعمق سوف تظهر ملامحها أكثر وفقا لتقارب أو تصادم روسيا وأميركا. لعل الشرق السوري سيكون أولى المؤشرات. أما في لبنان فالدور الروسي سيبقى اقل قدرة من امكانية جمع كل الأطراف، ذلك أن طرفا أساسيا في لبنان لم ولن يخرج مُطلقا من المحور الأميركي لصالح أي دولة أخرى، ولم ولن يقبل بأن يكون التحرك الروسي داعما اضافيا لحزب الله الذي يتهمه بالهيمنة على البلد.
الرعد كبيرٌ اذا في موسكو هذه الأيام، فلننتظر لنر أين ستُمطر، في لبنان أم في سوريا أو عبر الحدود؟ فلبنان يحتضر، والشعب يريد الآن بلسمة جراحه قبل الحديث عن أي بعد استراتيجي أكبر. وحزب الله بهذا المعنى على المحك، فوفده غادر لبنان صوب موسكو والحريق يلتهم الأخضر واليابس وقسم من اللبنانيين يحمّله كما الأطراف الأخرى مسؤولية ما يجري. صحيح أن موسكو لعبت دورا مفصليا في سورية وبقاء الدولة، لكنها لم تستطع منع الجوع. فهذا ينجح لقاء الحزب في موسكو حيث فشل غيره؟
خمس نجوم