كتب

‘الحزن ينبت جنوبا’ سرد ضد عالم بلا حب

نكاية بالقبيلة

أفتح نوافذ الأعراف

لتتحول العورة الى ثورة

أن كتابة الرواية تحتاج لمهارة امرأةٍ تُجيد التفاصيل، والى دِقّة وبناء وصبر ومتعة سرد.. كل هذا تجيده المرأة أكثر من غيرها، فهي مُوغِلَة في ثنايا الروح..”

توطئة..

مفهوم “الجندر” بالرغم من كونه مفهوما إشكاليا، يسهٍّل على الدارس عملية فك رموز المعاني والدلالات التي تمنحها الثقافات للفوارق الجنسية حيث يمكن استعماله أداة تحليلية، لانتقاده للتصورات السائدة.. المؤسسات والقيم الاجتماعية والثقافية.

وإن المرأة مُحاطة بالعديد من الإنشاءات الثقافية والسياقات التقليدية الضاغطة التي تجعلها غير قادرة على تمثيل نفسها، وذلك بسبب تعدد الحُجُب وسمك الستائر الأيديولوجية التي تقف حائلا أمام الكاتبة لزعزعة بعض قناعات المجتمع الذكوري، قناعات غذت مسلمات وبديهيات مع مرور الوقت، وبذلك فقد وضعت المرأة الكاتبة بسبب إصرارها في فعل الكتابة، يدها على موضع جرح النساء”.

الرواية “الحزن ينبت جنوبا” تضعنا كاتبته ميثاق كريم، أمام العديد من الاطروحات المرتبطة باستراتيجية الكتابة النسائية، من خلال فعل الخروج عن السائد، في اتجاه مساءلة الماضي واكتشاف المسكوت عنه ونقده، وخاصة ما يتعلق بتابوهات عديدة متعلقة بالذات النسائية مثل: الحب والحرية والجسد والقهر والمعاناة والصمت والعزلة.. كما نجد في فعل الولوج إلى مغامرة لغة الاختلاف، مساءلة اللغة واعتبار لغة المرأة لغة منسية غطّاها تراكم التجارب الحكائية الشفهية التي فجرت منطقة لا وعي الأنثى وعملت على تأنيث النص..

الرواية تبدأ بإهداء صادم،

الى كل من يعاني من مرض السرطان ومازال منتشيا بالحلم والابتسامة

الى صديقتي واختي الشاعرة “ندى عادل

تحاول فيه الكاتبة منح القارئ مفتاح فهم معنى التحدي وصنع الملحمة الإنسانية الكبرى .

الرواية تروي تفاصيل امرأةٍ من مدينة الناصرية تعيش في بيئةٍ منغلقة تحكمها القيود العشائرية والدينية وبالرغم من ذلك تمتلك الكثير من الأحلام والطموح والتمرد مما جعلها ترفض أن تتأقلم مع واقعها المرير الذي كلما ثارت عليهِ انكسرت لكن انكساراتها المتعددة هذه تجعلها عنيدةً أكثر فتلعقَ جراحها مرةً بعد مرةٍ وتنهض من جديد لتبتلع نكباتها بقوة الثائر الواثق من النصر ..

هي دعوة الى بنات جيلها ان يتخذنّ موقفا رافضا ومتمردا على سلطة القبيلة والاعراف الماضوية من الظلم الذي يقع على كاهل المرأة في المجتمع المدني والتي تعمل بوعي على مناهضة مظاهر هذا الظلم والاقصاء التعسفي..

تبدأ أحداث الرواية من مشهد تزور فيه “حياة” بناء الزقورة تتأمل البناء الشامخ بمهابة وقداسة تضع خدها على الجدران وتستعرض عبر المخيلة الحضارة السومرية المتجلية في أبهى حلتها وما أودعته هذه الحضارة في ذمة الزمان من آثار وشواهد للحضارة الحقيقية.. تلك الحضارة التي أولت الإنسان اهتماما بالغا ولم تغفل في _ الآن ذاته _ وجود المرأة بل وصل الاهتمام بها إلى حد تأليهها.

إنّ المتأمّل في قراءة الرواية يكتشف ان الكاتبة قد تعمّدت تقديم الحكاية تقديما بسيطا لا تهويل فيه ولا مبالغة وقد سردتها بلغة ذات بعد شعري أنثوي في غاية الجمال، حياة أشبه بمذكرات /رسائل رحيل وتجوال سريع.

تتخذ الكاتبة، أبعادا درامية الحدث في رؤية الواقع وتداخلاته مع روح الإنسان المتمرد، مستندة إلى البعد التاريخي لجذرها الإنساني، تتصاعد الأحداث بتناغمٍ أخاذ ومشوق وفقَ تسلسلٍ .. بدأ من يوم 7 – 7 – 2017 وينتهي في يوم 23 – 3 – 2018 حيث تنتهي الرواية.

اقتباس

“اليوم أنا عصبية المزاج لذا قررت أن أكتب إليك كل انكساراتي، عقول شـيطانية وباسم الدين تقـود هذا المجتمع/ القطيـع ولا ينبعث منها إلا أصوات الظلم والجوع والموت وما من مصابيح تنير عتمة الفكر.. ما عادت تلك البيوت تغفـو علـى ضفاف الأمان، كل شيء بكى على هذا الوطن المنكود، كل شيء سـال منه الضجر.. سال منه الدم، حتى بقايا النخيل أصابها ذهول الحرب، ما يزيد رعشة الصمت هـو ذاك السؤال الذي طالما كان عاقراً.. طالما بقي في حيرة وهو يتسـلل إلى شفة البوح..

متى تنمو المدن بالحرية..؟

متى تثمر المجتمعات بحقوق النساء..؟

حاولت “حياة” عبر تحركاتها وحوارتها تعرية الوضع الذكوري السائد القائم على التسلط والقمع وإقصاء الآخر تتأمل _ بدورها _ أوضاع المرأة من حولها ليس هذا فحسب بل نجدها تنتقد بعض السلوكيات النسوية المغلوطة والتصورات الذهنية الخاطئة التي تزيد من معاناة المرأة وتجعلها مستسلمة لكل مظاهر التهميش مؤكدة عبر تقنيات الرواية أن رقي المرأة واستعادة مكانتها في النظام الاجتماعي وفي بناء الحضارة هو الأمل الحقيقي لتجاوز الأزمة التي تعاني منها الحضارة المعاصرة.

وعلى الرغم من جزالة سير اللغة بالنص، وانسيابها، إلا أن النص لديها مشبع بالاحتجاج، اميرة سومرية وقفت بشموخ في وجة الاضطهاد والظلم والخداع والغدر واليأس المتنكر في ثوب الحب المتخاذل.

أنّ الهويّة الرمزيّة كائنة في بطلة الرواية متأصّلة فيها بدءا من اسمها. فـ”حياة” اسم يحيل على دلالة الحياة ضد الموت تفيض على الآخرين…

إذن هي طاقة إيحائيّة تحضّ القارئ منذ بداية الرواية على أن ينتبه إلى أنّه ليس إزاء شخصيّة روائيّة تنحصر دلالتها في حدود العالم التخييلي، بل هو إزاء شخصيّة رمزيّة تفيض دلالتها على كينونتها التخييليّة لتتّصل بأنساق التاريخ والحضارة وتغدو رمزا للوطن..

“حياة” شخصية مقاومة تغوص في خفايا النفس البشرية وراصدة لحظات انتصارها وانكسارها، فرحها بالحب. حيث تشكل تيمة “الحب” بطلا رئيسيا في هذه الحكاية، وهي تيمة فنية، فهي دائماً ما ترمي من خلال تناولها الكاتبة إلى الوقوف على دوافع النفس البشرية واحساسها الوجودي الضاغط، ومن خلاله تستخرج المناطق المظلمة في الروح وتعرضها للضوء حتى تتطهر. “الحب” استعارة تعبر من خلالها شخصية “حياة” عن قوة إرادة المرأة، ونضالها من أجل الوجود المستقل، فلا تستجيب للعادات والتقاليد، ولا تقبل بالذل والمهانة، أو بدور التابع غير الفاعل في العلاقة الإنسانية، ترسلها للقارئ على شكل “رسائل” تحكي فيها حكايتها.

وتستمر الرواية تنتقل “حياة” بعد ذلك للعيش في بيت السيدة/ مريم وتعود بشريط ذكرياتها إلى ليالي الناصرية ثم بعد ذلك تتعرف على ابن العائلة الدكتور/ أمان العائد من أميركا في زيارة _ مؤقتة _ للأهل في بغداد. وامان دلالة سيميائية ترمز الى السند والعون ..

يقترب “أمان” من “حياة” يتعرفان على بعض وينجذب كل منهما نحو الآخر لينعما – أخيرا – بدفء الحب وتكتشف “حياة” في أحاديثه وحوارته معها حبه الحقيقي للحضارة السومرية وهوما يدفعها للتعلق به أكثر يتشاركان حب “سومر” ثم يتواعدان على الزواج بعد عودته – ثانية – من أميركا لكنها تكتشف بعد فترة من تأخره عن محادتثها تعرضه للإصابة بالسرطان وهنا تتجلى “العقدة الروائية” لكن “حياة” تأبى التخلي عنه وتبادر للقيام بواجبها في رفع معنوياته.

اقتباس

تضع كفيها على صدره وتفتح ازرار قميصه وتزرع عليه عشرات القبل وهي تهمس له:

احبك يا أمان” .

اما بالنسبة الى الآب لم يعد الأب في الرواية هو أب الشخصية الورقية فقط، بل هو أب النموذج والمثال الذي يعكس مجتمع كامل، وبذلك تكون الرواية قد عالجت الموضوع من جانبين، جانب ذاتي يخصّ الساردة ، وجانب يتخذ صفة العموم، تعنى به كل امرأة في هذا المجتمع المقهور بهذه السلطة وبهذا يكون المتن الحكائي عبر شخصية الأب قد عمم التجربة الذاتية للمؤلفة لتأخذ أبعادا عامة وبذلك تكتسب التجربة الذاتية صفة العموم، وهذا ما يطمح إليه السرد في التخييل الذاتي عبر مراوغته بين المرجعيات الواقعية والتخييل الروائي ذاته، إذ لا يمكن التوقف عند صورة الأب واعتبارها صورة أب الشخصية وحدها،

اقتباس

“وحده الاب من يعامل ابنته معاملة خالصة كما النساج الذي يخشى على خيوطه الحريرية من أصابعه ..فيا صديقتي عليك ان تحفري في الصخر وحدك واستدي نفسك على طموحك .ولاتبني أحلامك على رجل، ولاتضعي رهاناتك على رجل ولا تنتظري السعادة من رجل .فلا احد منهم ان يأخذ دور لحظة واحدة من حنان ابيك .”

وختاما …أقول إن رواية :الحزن ينبت جنوبا” هي رواية الحزن الجنوبي وحكاية التحول الاجتماعي والمدني “اريفة المدينة” كتبت بلغة شعرية رومانسية خالصة وبروحية الحب بالرغم من كل الخراب الذي اصاب المدينة “مدينة الكاتبة” الناصرية مدينة الحضارة والأدب

ولعلّ أبرز مظاهر الانتصار في الرواية للحب رغم المرض القاتل كما سبق وبيّنا. ففي ذلك ترميز لعلويّة النصّ الأدبيّ وخلوده ولقدرة الكتابة على تخليد الحياة

شاعرة عراقية أصدرت ديوانين راهب الخمر والرقيمات السومرية *

*عن دار العراب في دمشق صدرت رواية (الحزن ينبت جنوبا ) للأديبة العراقية ميثاق كريم الركابي .

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى