الحضارة الروسية في صورتها المعقدة
تعني الحضارة بمفهومها الشامل كل ما يميّز أمة عن أمة أخرى، من حيث العادات والتقاليد، والقيم الدينية والأخلاقية، ونظام الحكم، والإنجازات العلمية والفنية والعمرانية.
كتاب سهيل فرح «الحضارة الروسية– المعنى والمصير» منشورات الدار العربية للعلوم- ناشرون، يحاول أن يقترب من هذا المفهوم الشامل للحضارة في تعاطيه مع الحضارة الروسية. فهو يسلّط الضوء على الإرث الثقافي والعلمي والروحي الذي تركته الشعوب الروسية عبر التاريخ في نقاط انتصاراتها وتعثّراتها، ويدخل في شرح وعي الروس المبكر لقوانين التطوّر وقوانين الطبيعة، والاجتماع، مركزاً في شكل أساسي على ثلاثية اللغة السلافية، والدين الأرثوذكسي، والمعتقد الاشتراكي. ثلاثية طبعت الحضارة الروسية بطابعها عبر التاريخ.
ينطلق فرح في الكشف عن السمات المميزة للحضارة الروسية من المدى الجغرافي الذي يسهم في تشكيل الجماعة البشرية وصهر نفسيتها، ورسم الخصائص القومية والثقافية لشخصيتها. والجغرافيا الروسية تشتمل على كل المناخات والبيئات الطبيعية للكرة الأرضية. فهناك المناخات الصقيعية والثلجية والمعتدلة، وهناك مناطق التوندرا والمساحات التي تحتلها الغابات الواسعة والسهوب الشديدة الاتساع، وهناك اليابسة المتاخمة للمحيطات والبحار والبحيرات والأنهار والينابيع.
يسكن أربعة أخماس الروس في الشطر الأوروبي، والخمس المتبقي في الشطر الأسيوي من الجغرافيا الروسية. وفي المئة سنة الأخيرة قطن ما يقارب ثلاثة أرباع السكان في المدن. في حين سكن الربع الباقي في المناطق الريفية. لذا يمكن القول إن «الشخصية المدينية» هي الغالبة على الشخصية الحضارية الروسية المعاصرة، وهي التي تشغل الحيّز الأكبر من الحياة الاقتصادية والثقافية في روسيا.
إضافة إلى الشخصية المدينية التي وسمت الحضارة الروسية بطابعها، هناك صفتان أخريان تنسبان إلى هذه الحضارة، وهي الصفة الأوروبية والصفة الأسيوية اللتان في تفاعلهما الجغرافي والسكاني أدّتا إلى تكوين روح روسية واضحة المعالم. روح قال عنها الفيلسوف الروسي بردييف إنها لا تحدّ لها حدود، ولا يمكن الإطاحة بها، ولا تعرف قوة هذه الروح إلا في أزمات التحدي الكبرى سواء الآتية من هيجان الطبيعة، أم من رغبة الغزاة الأجانب في غزو المدى الروسي.
الجغرافيا الروسية بمداها الواسع خلقت الجغرافيا الروحية، كما يقول مؤلف الكتاب، وهذه الأخيرة أثّرت في ثقافة العين والأذن وسائر الحواس، وأغنت المخيلة الفنية والجمالية والعلمية. إن اتساع الجغرافيا الطبيعية الروسية ترك تأثيره الكبير على فضاء الكلمة ونقاوتها وبريقها في الشعر والأدب (دوستويفسكي، تولستوي، تشيخوف) والرسم وحركات الجسد، وكل فنون الرقص وبخاصة فن رقص الباليه.
تقول الباحثة الروسية سيمنكوفا في تناولها لهوية الحضارة الروسية: «إن روسيا ظهرت على ملتقى الحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة البوذية، وقامت على مجال هائل من الاتساع، شهد تنقّلات مجموعات شعوب رحل، وشبه رحل. بهذا المعنى هي تجمع تاريخي لتكتل من الشعوب الكثيرة، ذات توجهات حضارية مختلفة، وحّدتها دولة مركزية قوية». هذا التصوّر لهوية الحضارة الروسية يوصف عند بعض الكتاب الروس بالمحافظ لأنه يعتمد على خصوصية المكان، في حين أن هناك تصوّراً آخر يطرح نفسه بديلاً حضارياً ويعيب على أصحاب التصوّر السابق بأنهم ماضويون، ولا يريدون المسار الحضاري الإنساني إلا من خلال الأرض التي يعيشون عليها، والرؤية الدينية التي يؤمنون بها. والتصوّر الأخير متنوّع المشارب الفكرية التي تنضوي كلها تحت تسمية عامة يطلق عليها النظرة المادية للوجود، وفيها اللون الليبرالي الغربي والماركسي. وهذا التصوّر يسعى بكل جهده إلى إدخال روسيا في مسيرة العولمة.
لطالما شغل وما زال يشغل المفكرين الروس في بحثهم عن هوية الحضارة الروسية موقع روسيا التاريخي والمعاصر في الغرب والشرق، فمعادلة روسيا– أوروبا– الغرب، أو روسيا– آسيا الشرق هي المعادلة الأبرز في البحث عن الهوية الحضارية الروسية. ولعل من أبرز الشخصيات الفلسفية التي بحثت في هذه المعادلة بين الشرق والغرب سولفيوف وبردييف الذي اشتغل كثيراً على ما يسمّى «الفكرة الروسية»، فهو لم ير كثافة حضورها لا في المجال الغربي البحت، ولا في المدى الشرقي. إن هذا الفيلسوف الذي مرّ بتجارب فلسفية وحياتية عديدة، وتمكّن من التعرّف العميق إلى ثقافات الشرق والغرب، قال عن الشعب الروسي هو شعب النهايات لا شعب البداية والوسط. «الروس كما يقول «عبثيون» إنهم ينشدون دائماً النهايات.
كما كان البحث عن هوية الحضارة الروسية محط نقاش عند الكتاب والمفكرين الروس قبل دخول العولمة، إذاً هذا النقاش يتجدّد من خلال أبحاث أكاديميين، من بينهم هانتنغتون الأميركي ويرسوف الروسي. أكاديميان يشكلان مرجعية ثقافية ملحوظة في بلديهما، وإن كل منهما يعبّر عن الهاجس الثقافي العام الذي يقلق حضارته، ويعكس بعض جوانب القوة والضعف عنده وعند غيره.
يشكّل الاختلاف والتنوّع، وفق رؤية هانتغتون مصدراً للنزاع، ومن هنا فإنه يعتبر أن الحضارة الغربية تختلف بصورة أساسية لا بل تتناقض مع الحضارات الكونفوشوسية واليابانية والهندوسية والبوذية والإسلامية والسلافية والأرثوذكسية، هذه الحضارات يتنبّأ لها المفكر الأميركي بمستقبل مشؤوم، ويحكم عليها بالتكسر والتمزق التدريجي، ويعتقد أن بعضها قد ينقذ نفسه من السقوط في هاوية الأفول السريع وبالتالي الانقراض، إذا ما خلع عن نفسه عباءة الخصوصية الثقافية، وتمكّن من ركوب قطار العولمة. بالمقابل يرى المفكر الروسي يرسوف أن ثمة حالة من القلق الوجودي عند الروس حيال العولمة الاقتصادية والثقافية. فبعض المستفيدين وبالذات الذي يطلق على نفسه اسم التيار الديمقراطي متماه مع العولمة، وحريص على إبراز إيجابياتها فقط، في حين لا يرى التيار المعارض لها، والذي يضمّ في صفوفه تيارات متعدّدة : القومي والأرثوذكسي واليساري في العولمة إلا مبادرة شؤم على روسيا. يرسوف الذي يجتهد لأن يحمل راية الموضوعية الأكاديمية يجد نفسه شديد الالتصاق بالتيار الثاني، فهو يعيب على مروّجي العولمة الثقافية إرادة التوسّع، والغزو والهيمنة لدى حاملي الرايات الحضارية الرائدة، وتلك الإرادة موجّهة في شكل أساسي لتكسير الجانب الأكسيولوجي والروحي لدى الحضارات الأخرى. فهو يعتبر أن في عصرنا هذا تتلقّى الضربات تلك الثقافات العريقة التي لا تتطابق روحها مع ماهية الثقافة المعاصرة، وأضحى تراث تلك الثقافات وكأنه من محفوظات المتاحف، أومن النصوص المختارة التي يحتفظ بها فقط من أجل عرضها في المناسبات.
في معرض تقويم يرسوف لآثار العولمة على حضارة بلاده، يشير الى أنها أضحت تدخل بقوة في أنماط وتفكير وسلوكيات الروس، ولا سيما الذين يعيشون في المدن، كما أن قيم الغرب البرغماتي والعقلاني بدأت تهبّ بقوة على الحضارة الروسية، فروسيا الآن هي أشبه بمزيج من روحانية الهند، والقوة العسكرية لألمانيا، وعقلها أقرب إلى فلسفة الغرب، وقلبها يرتاح إلى روحانية الشرق، وشخصيتها الثقافية تتأرجح بين هذا وذاك.
كتاب سهيل فرح يسلّط الضوء على نقاط الضعف والقوة في الجيوبولتيك الروسي، ويقدّم رؤية مستقبلية تستشرف الحضور الروسي في أوراسيا الكبرى، وكذا في العالم.
صحيفة الحياة اللندنية