الحفريّاتُ النحْوية ( جودت فخر الدين)

 

 جودت فخر الدين


قبل أربعين سنةً تقريباً، سمعتُ سعيد عقل للمرة الأولى يتكلّمُ في أمسية ٍ شعرية، في كلية التربية في الجامعة اللبنانية. كنتُ في حينها طالباً لم أبلغ العشرين من العمر، وكنتُ معتدّاً بعلاقتي بتراثنا الشعري من جهة، ومنفتحاً على الحركة الشعرية الحديثة من جهة ٍ ثانية. في تلك الأمسية، راح سعيد عقل يتكلّمُ حيناً، ويقرأ الشعر بالفصحى أو بالمحكية حيناً آخَر. كان على سجيته في حديثه إلى جمهور الأمسية. راح يقدِّمُ الشعر تارةً، ويقدِّمُ آراءهُ في الشعر تارةً أخرى. وهو في الحالتيْن على اعتداد ٍواضح ٍبشعره وبآرائه.
لقد أمدّتْني هذه الأمسية بمعرفة ٍأولية ٍبوجوه ٍمتعدِّدة ٍ لشخصية سعيد عقل الشعرية. وأكثر ما لفتَني في شعره قوّتُهُ اللغوية. أذكرُ هنا بيتيْن حفظتُهما من ذلك الوقت، قالهُما سعيد عقل وهو يعرضُ مفهومَهُ للشعر، مُعَرِّضاً بمفاهيم غيره التي رآها مجانبةً للسداد، أو بعيدةً عن جوهر الشعر. أما البيتان اللذان يلخّصان مفهومَهُ هو، فهُما:
الشعرُ قبْضٌ على الدنيا مُشَعْشعةً/ كما وراءَ قميص ٍ شعْشعتْ نُجُمُ/ فأنتَ والكون تيّاهان كأسُ طِلىً/ دُقَّتْ بكأس ٍ وحُلْمٌ لَمَّهُ حُلُمُ
قوةُ اللغة، على فخامة ٍوتأنُّق، هي التي تميِّزُ هذين البيتيْن وغيرهما ـ بنسبة ٍ أو بأخرى ـ من شعر سعيد عقل. هذا أبرزُ ما تحصّلَ لي من انطباعات ٍ من تلك الأمسية، ثم راح يتعزَّزُ لديَّ مع الوقت، عندما رحْتُ أطّلعُ على قصائد الشاعر في مختلف المواضيع. وكلامي هنا، في هذه المقالة، سوف يقتصرُ على قصائد عقل باللغة الفصحى.
الحفرياتُ النحْوية، إذا صحَّ التعبير، هي ظاهرةٌ بارزةٌ ـ بل طاغيةٌ ـ في شعر سعيد عقل. لقد استثمرَ الشاعرُ تمكّنَهُ اللغوي، وتفنُّنَهُ بأساليب النحْو، إلى أبعد الحدود. وفي هذا المجال، أكثر من غيره، ينبغي البحث عن وجوه التجديد التي كان لسعيد عقل أنْ يحقِّقَه.
الحفْرُ النحْويُّ في شعر سعيد عقل يبلغُ أحياناً حدود التقعُّر، ويأتي أحياناً أخرى في طابع ٍمن التألّق والطرافة. إذاً، يمكننا الكلام على تفاوت ٍ في قصائد عقل، يدْفعُنا إلى القول إنّ التأنُّقَ اللغويَّ الذي أشرْنا إليه يتجلّى في مستويات ٍ مختلفةٍ في تلك القصائد.
هذا التأنُّق يكون سطحياً عندما يتوقّفُ عند حدود اللعب بالألفاظ أو العبارات، كما في هذا البيت الذي يمتدحُ الأمير فخرالدين المعنيّ :
ما أنتَ فخرالدين معنيّاً بهِ/ بل أنتَ فخر الدين والدنيا معاً
إلا أنّ التأنُّقَ اللغويَّ يظهرُ في أجمل تجلياته عندما يقترنُ بالسلاسة التي تُبْعِدُ عن التعبير الشعريّ شبْهةَ التكلُّف أو التعمُّد، كما في القصيدة المشهورة التي تبدأ بهذا المطلَع:
ألعيْنيْك ِ تأنّى وخَطَرْ/يفرشُ الضوءَ على التلِّ القمَرْ
لم يقُلْ سعيد عقل إنه «فجّرَ» اللغة، والأرجح أنه لم يستسِغْ عبارة «تفجير اللغة» التي شاعتْ في الكلام الذي واكبَ الحداثة الشعرية العربية. ومع ذلك، فإنّ هذه العبارة يصحُّ إطلاقُها على الكثير مما قدّمَهُ عقل في قصائده. فإذا كان المقصود بتفجير اللغة إطلاقَ طاقات ٍ كامنة ٍ فيها، أو استخدامَ ما خَفِيَ من إمكاناتها النحْوية (التركيبية)، فسعيد عقل يأتي في طليعة مفجِّري اللغة. ولكنْ، من المهمِّ هنا أنْ نشيرَ إلى أنّ المستوى النحْويَّ في بناء القصيدة لا ينفصلُ أو يستقلُّ عن غيره من المستويات: كالمستوى العروضي(الموسيقي)، والمستوى البلاغي، والمستويات المعنوية… وغيرها. وشاعرية سعيد عقل لا تقومُ على براعته في النحْو فقط، وإنما تقومُ على براعته في نسْج العلاقات داخلَ القصيدة بين النحْو وغيره من العناصر أو المستويات. فالشاعر الشاعر هو من يملك إحساسَهُ الخاصّ بالنحْو من دون أنْ يكون عالِماً فيه، ويملكُ إحساسَهُ الخاصّ بالبلاغة من دون أنْ يكون عالِماً فيها، ويملكُ إحساسَهُ الخاصّ بموسيقى الشعر من دون أنْ يكون عالِماً في الوزن أو العروض… ومن كلِّ ذلك، أي من خصوصية العلاقات داخلَ القصيدة بين مختلف العناصر أو المستويات تنشأ اللغة الشعرية، التي هي المصطلحُ الأنجعُ في الكلام على تميُّز شاعر ٍمن الشعراء.
لم يستسِغْ سعيد عقل عبارة «تفجير اللغة»، كما لم يستسِغْ غيرَها من العبارات أو المصطلحات الفنية التي دخلتْ في التداول مع انطلاقة الحركة الشعرية الحديثة. لقد كان عقل سابقاً لهذه الحركة التي انطلقت منتصفَ القرن المنصرم، وظلَّ حاضراً بقوة ٍبعد هذه الانطلاقة، ظلَّ حاضراً في موازاة الحركة الشعرية الحديثة. وازاها ولم يتقاطعْ معها. والأرجح أنها لم تحْظَ باعتراف ٍ منه بها، وإنْ كان بعضُ شعراء الحداثة، بل العديدون منهم، قد وجدوا في سعيد
عقل أباً من آباء هذه الحداثة، أي أنهم وجدوا فيه واحداً من الذين مهّدوا لظهور اتجاهات ٍتجديدية ٍفي الكتابة الشعرية.

عقل وقبّاني

شاعرٌ آخَر، كان مثلَ سعيد عقل سابقاً لحركة الشعر العربي الحديث، وظلَّ مثلَهُ حاضراً بقوّة ٍفي موازاة هذه الحركة، هو نزار قباني. ولكنْ، إذا كان سعيد عقل لم يسْعَ إلى التقاطع مع الحركة الشعرية الحديثة ولم يرغبْ في ذلك، فإنّ قباني رغبَ في التقاطع مع هذه الحركة وسعى إليه.
ليس المقصود هنا المقارنة بين الشاعرين، اللذيْن مثّلَ كلٌّ منهما ظاهرةً متميِّزةً في شعرنا المعاصر. ولكنّ الإشارة إلى نقاط تقارب ٍ بين الظاهرتيْن من جهة، وإلى نقاط تبايُن ٍبينهما من جهة ٍثانية، من شأنها أنْ تساعدَ في إلقاء الضوْء على الظاهرتيْن معاً، وعلى التبصُّر والتدقيق في كلّ ٍمنهما.
من نقاط التقارب، نذْكُرُ أنّ الشاعريْن لم يتبنّيا مشروع الحداثة، وظلَّ كلٌّ منهما يشقُّ درْبَهُ بموازاته. فمحاولاتُ قباني (الحديثة) لم ترْقَ إلى المستوى الذي حقّقَهُ في موازاة الحداثة. ونذْكرُ أيضاً أنّ كلاً من الشاعرين استطاع أنْ يصنعَ لغتَهُ الشعريةَ المتميِّزة، وكان له أنْ يفعلَ ذلك قبل انطلاقة الحركة الشعرية الحديثة.
من نقاط التباين، نذْكُرُ أنّ لغة سعيد عقل الشعرية يطْغى عليها التفنُّنُ في النحْو، أو الحفْرُ فيه كما أسلفْنا. أما لغة نزار قباني فلا تحفلُ بتفنُّن ٍنحْويّ، وإنما ـ على العكس من ذلك ـ تحْفلُ بأبسط ما يكون من الصِّيَغ أو التراكيب النحْوية. إنها، بتعبير ٍآخَر، تكتفي بحدّ ٍأدنى من النحْو. انطلاقاً من ذلك، يمكنُ القول إنّ السلاسة في لغة قباني، التي تتّصِلُ أحياناً بمستويات ٍمن السطحية، يقابلُها تفنُّنٌ في لغة عقل، يتّصِلُ أحياناً بمستويات ٍمن التقعُّر.
على مدى العالم العربي، كان نزار قباني أكثرَ جماهيريةً من سعيد عقل، ومن أيِّ شاعر ٍآخَر، طيلةَ عقود ٍ من الزمن. ولكنْ، في ما يتعلَّقُ بالتأثير في كُتّاب الشعر ـ على نحْو ٍمباشر ٍأو غير مباشر ـ كان عقل أكثرَ تأثيراً من قباني.
وفي الحالتيْن، استطاع عقل وقباني ـ كلٌّ بطريقته ـ أنْ يحتفظا بحضور ٍ قويّ ٍ إزاء حركة ٍشعرية ٍرمَتْ إلى تحقيق تغييرات ٍجذرية ٍفي مفاهيم الشعر، وفي كتابته وتذوّقه.
في سياق هذا الكلام، ينبغي ألا نرى إلى قصائد الشعر الحديث وكأنها قصيدةٌ واحدة. ففي هذا الشعر هناك اتجاهاتٌ كثيرةٌ، قد تتقارَبُ في ما بينها أو تتبايَنُ أو تتناقَض. وهذا أمرٌ لم يحْظَ حتى الآن بالدراسة، وإنْ كان يُشارُ إليه دائماً.
لا أظنّ أنّ سعيد عقل ميَّزَ بين شاعر ٍ وآخَر من شعراء الحداثة، بل أظنُّهُ لم يُعِرْ هؤلاء الشعراء اهتمامَهُ. وكثيراً ما عبَّرَ عن عدم موافقته على تسمية القصيدة الحديثة بالقصيدة. وهذه النقطة لا أريدُ لها أنْ تكونَ في صلْب حديثي عن سعيد عقل، وإنما أردْتُ الإشارةَ ـ من خلالها ـ إلى أنّ سعيد عقل قد أبقى على المقوِّمات البنائية للقصيدة العربية العمودية، بل تمسَّكَ بهذه المقوّمات، وهو يعملُ على تجديد الشعر، وابتكار طريقته الخاصة في (نظْمه) أو (كتابته).
إذاً، لم يرَ عقل تناقضاً بين تجديد الشعر وبين الإبقاء على شكل ٍ موروث ٍ للقصيدة. ويمكن القول إنّ عملَهُ التجديديَّ كان من داخل هذا الشكل، في تركيز ٍواضح ٍ على واحد ٍ من عناصره الأساسية، هو العنصر النحْوي أو اللغوي (التركيبي). وأعودُ هنا إلى القول إنّ المستوى النحْويَّ في تأليف الشعر (أو النثر) ليس منفصلاً عن غيره من المستويات، وبالأخصّ المستوى البلاغي. وهذا ما أوضحَهُ في القديم عبد القاهر الجرجاني، الذي أسّسَ علْمي «المعاني» و«البيان»، والذي ابتكرَ مصطلَحاً نقدياً هو «معاني النحْو»، ودعا إلى التبصُّر في النصوص الأدبية انطلاقاً منه أو اعتماداً عليه. وما قصَدَهُ الجرجاني بهذا المصطلَح «معاني النحْو» هو مختلف أساليب التركيب، التي توسَّمَ فيها كنوزاً لا تنفد، تمنحُ اللغةَ قدرةً دائمةً على التجدُّد، وتضعُ الإبداعَ الأدبيَّ حيالَ احتمالات ٍ وطاقات ٍ لا تُسْتَنْفَد.
لعلّ سعيد عقل، هو الآخَر، قد توسّمَ في النحْو كنوزاً دفينةً أو خفية. لعلّهُ رأى للشعر مهمّةَ الكشف عمّا أمكن من تلك الكنوز، التي تنطوي على عبقرية اللغة. لعلّه انطلقَ في عمله التجديديِّ من الاضطلاع بهذه المهمّة، فإذا بحفْرياته النحْوية تُشكِّلُ طابعاً طاغياً على أعماله الشعرية.
بعد هذا، أودُّ القول إنّ كلَّ تصنيف ٍلسعيد عقل، أو كلَّ ربْط ٍله بمذهب ٍأو مدرسة ٍ، كالرمزية أو غيرها، هو من قبيل التعسُّف. أميلُ إلى القول إنه عصيٌّ على التصنيف. ولو كان عندنا اليوم، في عالمنا العربيّ، من يملكُ الرغبةَ والقدرةَ على استقصاء التطوّرات التي تحصّلتْ ـ على مدى قرون ـ في النحْو والبلاغة العربييْن، لوجدَ في قصائد سعيد عقل مادّةً مؤاتيةً للدراسة.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى