الحق على الطقس…
عادة ما تبدأ أحاديث التعارف بين شاب و فتاة بالتعليق عن الطقس وتنتهي بالزواج والأولاد والذريّة الصالحة … وربما بأبغض الحلال … ولعنة اليوم الذي كانت فيه الشمس غائمة أوغائبة أو غاربة.
غالباً ما يورّطنا الطقس في مواقف يصعب الخروج منها، كما حدث مع شخصية (مارسو) في رواية (الغريب) لألبير كامو، ذاك الذي واجه حكماً بالإعدام حين أطلق من مسدّسه أربع رصاصات صريحة غير مترددة على من سحب سكيناً في وجهه عند شواطئ وهران الجزائرية وأرداه قتيلاً.
سأله المدعي العام : لماذا فعلت كل هذا وبمنتهى التفصّد والعدوانيّة، مع أنّك تراه لأول مرّة!؟
أجاب: كان ذلك بسبب حرارة الشمس وانعكاس ضوئها على السكين في عيني يا سيدي.
بسبب رداءة الطقس، انتسب محمد الماغوط في خمسينات القرن الماضي إلى أحد الأحزاب لأنّه وجد في مقرّه (صوبيا) تدفئ الدم الذي كاد يتجمّد في عروقه أثناء شتاء طويل وفقير مثل ليل الجائع.
أكاد أجزم أنّ أغلب ما عرفه تاريخ البشرية من متغيّرات جذرية كان بسبب الطقس الذي يقسو، من الثورة الفرنسية في باريس إلى الثورة البلشيفية في موسكو. من رسومات (بول غوغان) للصدور العارية في جزر (التاي تي) إلى رحلة الفنان الكردي عمر حمدي الملقّب بـ (مالفا) بألوانه الحارّة القادمة من الجزيرة السورية والتي حطّت في صالات فيينا الباردة وأدهشت جمهورها.
أكاد أجزم أنّ ضعف عقيدة و إيمان مدن الشمال الاسكندنافي سببها الثلوج التي تجعل بعضهم لا يخاف جهنّم يوم الحساب، بل وربما يتمنّاها أثناء العواصف الثلجية…ممّا جعلهم يقولون: (هذا أمر يدفئ صدري) للدلالة على الرضاء والانشراح…أما نحن فنعبّر بقولنا: (هذا شيء يثلج صدري) … للدلالة على نفس الإحساس، كما أنهم يخافون الليل ويشبّهون به كل ما هو موحش وقبيح …أما نحن فيتغزّل به شعراؤنا ونختاره ظرفاً آمنا للبوح ومناسبا للقاءات المتعذّرة في النهارات المزدحمة…. جعلناه بلا عيون…وجعلنا النهار بلا آذان …على عكس الحيطان…ثمّ غنّينا :(يا ليل يا عين).
وبسبب قسوة الطقس أيضا يحكى أنّ تقاليد رجال الأسكيمو تقضي بأن يهدي الواحد لضيفه امرأة تدفئ فراشه طيلة فترة الإقامة وتبعد عنه الكآبة التي تسبّبها صحاري الثلج….كذلك يفعل (رجال) بعض القبائل الإفريقية في (أخلاقهم)…وللسبب عينه…!.
ما يفعله الطقس بالناس جعل القنوات التلفزيونية تبجّل النشرة الجوية وتقدّمها على النشرة الإخبارية والأحداث السياسية التي لا شك أنها تتأثر بكل ما تفعله الشمس برؤوس ملايين البشر من عسكر وساسة ومواطنين.
ما يصنعه الطقس بالناس هو ما تفعله رمية النرد في لعبة الطاولة قائلة: (هذا قدرك و أنت تصنع مصيرك لأجل البقاء على رأس اللعبة أو مغادرتها)… من يتذكّر قصة الشاعر محمد الماغوط وانخراطه في أحد الأحزاب بسبب وجود مدفأة في مقرّه .
جعلت الشمس- في ظهورها واختفائها- البشرية تفكّر في أساليب التكيّف والتأقلم والمقاومة والاستمرار عبر تاريخها …وهو ما يعرّف فلسفيّاً بالذكاء .
جعلت الأذكياء يبتدعون المعاطف والقفّازات والمكيفات والشمسيات والبرّادات …وجعلت أصحاب السطوة من الحمقى يسخّرون أصحاب النفوس الضعيفة لاصطياد الحيوانات طلباً لجلدها وفروها وريشها.
لكنّ الطقس قد عاقبهم على ما اقترفت أيديهم من عبث بالطبيعة، ذلك أنّ غضب الطبيعة من غضب الأقدار التي تعاقب كل من لا يحسن التصرّف في رمية(النرد).
أخيرا اسمحوا لي أن أختم بمثل ما بدأت، وكما جاء في عنوان هذه السطور:
أعرف قصّة غريبة لصديقة سوريّة حسناء كانت قد دخلت إلى المصعد وهي (تمروح) بجريدة فرنسية وجدتها بالصدفة في بهو الفندق وقالت متذمّرة من حرارة الطقس بلكنة شاميّة مؤنّثة : (ولي..! شو في شوب!)…أي (ما هذه الحرارة !). نظر إليها السائح الفرنسي بابتسامة إعجاب ووافقها القول ظنّاً منه أنها تقول ….أي نفس المعنى …وبالمصادفة.il fait chaud)
تطورت المحادثة بإشارات ونظرات وهنّات لغات، وصار الحب والزواج والأولاد وحوار الحضارات….انظروا إلى ما يفعله الطقس بالناس.