الحكام العرب ومواجهة الإرهاب

نادى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أيام بضرورة تطوير الفكر الديني كمساهمة في مواجهة الإرهاب، ووعد بعد أسبوع من ذلك التصريح باستئصال العمليات الإرهابية من أرض مصر، وخصوصاً من سيناء. وقبل شهرين، طالب الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز رجال الدين في بلده بالعمل على نشر الوعي بمخاطر الإرهاب، وحمّلهم بعض المسؤولية في ما وصلت إليه المنظمات الإرهابية من نمو، وتهديدها أمن واستقرار البلدان العربية بما فيها المملكة السعودية. وفي بلاد الشام والعراق، تعلن السلطات الحاكمة عن نيتها مقاومة الإرهاب، وتلهج جميعها بضرورة اجتثاثه، ولعل هذا الأمر نفسه الذي يصرّح به الحكام في سائر البلدان العربية والإسلامية. وبرغم حزم هذه التصريحات وعزمها وارتفاع نبرة الصوت عند إطلاقها، فإن أي فعل جدي ومنهجي من قبل السلطات لا يمارس لمواجهة الإرهاب، ويبقى الأمر مجرد كلام لا يرقى إلى درجة التنفيذ، باستثناء استخدام أقصى درجات العنف ضد التنظيمات الإرهابية، حيث يعتقد الحكام العرب أن القضاء على هذه التنظيمات، إنما يتم بالقوة العسكرية وبالسبل الأمنية، وأن العلاج يكمن في فوهة المدفع والبندقية. ويبدو أن هؤلاء الحكام يعتقدون أن الإرهاب ما هو إلا فكرة عارضة اقتنع بها أصحابها، فيما هو في الواقع نتيجة تراكم ممارسات اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وسياسية على مدى سنين طويلة، وتربية خاطئة وقيم عتيقة ورفض منهجي للمحاكمة العقلية، حيث أدى تجمعها إلى خلق وعي مشوّه وسلوك منحرف، قاد إلى ممارسة الإرهاب، في مواجهة الصديق والعدو، حتى كادت الأعمال الإرهابية تصبح بذاتها هدفاً لا وسيلة لهدف آخر، دينياً كان أم أخلاقياً أم اجتماعياً.

إن القيم وأنماط السلوك التي يمارسها الإرهابيون، هي وليدة منظومة من الظروف والشروط المعيشة في المجتمعات العربية التي أوصلت الوعي والثقافة إلى مستوياتها المتدنية في الوعي والتفكير، وأوجدت قيماً جديدة يؤمن بها الإرهابيون بكل غلظتها وسوئها، وكانت العامل الفعال في خلق شخصية الإرهابي وطريقة تفكيره.

والملاحظ أن معظم الإرهابيين أمّيون وجهلة، وقد لقنهم بعض قادتهم تعليمات إسلام الفقه والفقهاء، الذي تراكم عبر التاريخ وتلاعب به الفقهاء والحكام وصنّعوه كما يريدون. ومعظمهم بالإجمال من فئات متواضعة الثقافة، كانوا يمارسون مهناً بسيطة لا تحتاج مهارة، فوجدوا أنفسهم أعضاء تنظيمات مسلحة لها الحق بالنهب والسلب والمصادرة والاعتقال والقتل، والحق بالأمر والنهي من دون تحفظ، بل والحق دينياً في التفسير والتأويل والاجتهاد، ما دام سلاحهم بيدهم والآخر أعزل، وما من مسؤولية على أي منهم مهما عمل، وكثير منهم يعاقب السارق وقد كان سارقاً، ويرجم الزانية والزاني وقد كان كذلك. لقد تمردوا على أنفسهم وطبقتهم وتقاليدهم وقيمهم، وأصبحوا أناساً آخرين من طينة مختلفة، أغراهم النهب والمصادرة وممارسة الجنس بحجة التسري، والسلطة بحجة نشر الدين، وفوق ذلك كله تنتظرهم الجنة كما يعتقدون، أما ماضيهم القذر، «فالله غفور رحيم».

إن الأنظمة التي تقف بوجه الإرهاب والمنظمات الإرهابية تمارس مهمتها من خلال منطق أصولها الأمنية أو العسكرية، وتعتقد أن المواجهة العسكرية لهذه المنظمات هي الوسيلة الأساس ذات الجدوى. وواقع الحال يؤكد أن مواجهة الإرهاب بالسلاح والعنف لن تجدي، إذ لا بد من تجفيف منابعه وإبقائه عارياً أمام الناس وأمام نفسه. أما المعالجة بالحلول الأمنية ففاشلة مسبقاً، خصوصاً أن عناصر الإرهاب مؤمنة بما تفعل، وترى أنه واجب ديني وطريق صحيح وسبيل للخلاص من هموم الدنيا وكسب مزايا الجنة.

إن الإرهاب، بأهدافه ووسائله، هو سلوك يتأتى من منظومة قيم أخلاقية، وأسلوب إنتاج وعلاقات اقتصادية واجتماعية محددة، ونمط عيش بعينه، ومن تربية يقوم عليها الفرد منذ نشأته في البيت والمدرسة والمجتمع، وتساهم في تشكيله وسائل الإعلام والثقافة وأساليب الحكم ونمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومدى تطبيق معايير الدولة الحديثة، وخصوصاً لناحية توافر الحرية والديموقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص وغير ذلك. كما تساهم في ذلك المناهج التربوية وتهويمات المؤسسات الدينية الرسمية والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاعتداد بأولوية مرجعية المواطنة وإحلال مرجعيات ثانوية محلها كالطائفية والإقليمية والاثنية وغيرها. وإن عدم استيعاب هذه المنظومة وتطبيقها يؤدي بالتأكيد إلى تربية منحرفة، ولذلك تبقى تهديدات الحكام والأنظمة للإرهابيين مجرد كلام من دون جدوى، لأنه يواجه المراحل الأخيرة أي المخرجات، من دون التعرض للمنابع وتجفيفها والقضاء عليها.

ما زالت المؤسسات الدينية التقليدية على ما كانت عليه قبل مئات السنين. فهي تحافظ على أكداس الفقه المتراكم، وتحارب التحديث ونقد التراث، وتمجد دور الفقهاء، وتبرر للحاكم ما لا يبرر كما تبرر لنفسها أيضاً، وتربي الناس وتشكل وعيهم بما يؤكد الإرهاب ويعززه. وينبغي، والحالة هذه، إعادة رسم مهمات المؤسسات الدينية، وتكليفها بتجديد مفاهيمها وأساليبها وتطوير الفكر الديني وأخذ معطيات العصر بالاعتبار، والكف عن تمجيد الأساطير والأوهام، وتعزيز حياد الدولة تجاه الأديان جميعها، وفصل الدين عن شؤون الدولة.

إن اللامساواة القائمة في معظم المجتمعات العربية، والخلل المتأصل في تكافؤ الفرص، والقمع والقهر والظلم والفقر وغياب العدالة وحقوق الإنسان، إنما هي عوامل تؤسس للإرهاب وترجح كفته، وتجعل المنظمات الإرهابية موئلاً وملجأ لضحايا الظروف القائمة، ويخطئ من يعتقد أنه بالنيات الحسنة أو بفوهة المدفع يستطيع القضاء على الإرهاب، فالقضية تولدها شروط وظروف موضوعية قبل أن تتبناها رغبات وإرادات ذاتية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى