الحكيم
الحياة لاتقاس بعدد مرات الشهيق والزفير التي قمنا بها…وانمابعدد المرات التي انخطفت فيها انفاسنا من السعاده
_________________________________________
الفرق بين الطبيب والحكيم تحدث عنه أجداد الطب، العرب الأوائل:
الحكيم يقول لك: “ليس هناك مرض…هناك مريض”. ما يعني أنه كما أن لكل شخص بصمته، لكل شخص مناعته. ولا تتشابه الاستجابات للأمراض ولأدويتها.
والحكيم يقول لك: “اصغ إلى جسدك لتكون أعلم به من غيرك” ولا بد أن المتنبي على حق، عندما قال:
“يقول لي الطبيب أكلت شيئاً؟ فداؤك في شرابك والطعام.
وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام”.
مررت على دزينة من أطباء العصبية لمعالجة انقراص فقرات الرقبة، من فرط انحناء المواطنة المنقوصة، والإفراط في كتابتها منحنياً على أوراق وطاولات مرتجلة ومرتحلة … كلهم قالوا لا بد من عملية جراحيه.
وفي شرح العملية كان ثمة ما يشبه المذبحة/ أو الذبح. أحدهم قال ندخل على الفقرات من عند الحنجرة نزيحها وندخل وراءها، ونقص الديسك. طبيب آخر قال: ندخل إلى الفقرة من الخلف…نزيح، نقص الديسك…
طبعاً كنت أفضل الموت على المغامرة بعملية جراحية فيها كل هذا الذبح. ولكن حالتي ساءت حالتي فلم أعد قادراً على الإمساك بالقلم والكتابة. وهذا يعني أنني لا أستطيع الحصول على الخبز. ولا أستطيع هجاء أومديح الحياة .
قررت الذهاب هذه المرة، إلى حكيم ( وهو طبيب اختصاصه مفاصل وروماتيزم). قال مبتسماً من مبالغات الذبح والجراحة: علاجك بسيط: رياضة، سباحة، تمارين محددة. ثم ضحك : ثم… “لا تنحن كثيراً” !
وطبعاً رميته بتصريحاتي الفورية:” أنا لا أحب هذه العائلة المؤلفة من : الانحناء، الركوع، السجود، التطامن، التحية الهندية ، الاحترام الياباني “، وقرأت له قصيدة بسيطة كتبها غجري كوصية:
“ادفنوني واقفاً…
أمضيت حياتي كلها
راكعاً على ركبتي”
ثم ودعني عند الباب ووجهه مملوء بالرضا المشجع لصديق خائف من المجهول والاحتمالات… وبعد أشهر جئت إليه متأبطاً روايتي “إلى الأبد و… يوم” مع إهداء لا أذكره الآن لكنه مفعم بالامتنان والاحترام…لقد كتبت رواية !
هذا يعني أن الطبيب/ الحكيم جعلني لا يسقط القلم من بين أصابعي .
أراهن أن هذا الطبيب قد زاره من لديه رشح، وصداع، وفتق، وآلام ذكورة، كما استشاره أصدقاء في سرطانات، وفي مآزق إنسانية أيضاً. وهو لا ينسى أن يقول لك، أثناء العيادة، أشياء كثيرة عن كتب قرأها. ويطلب إليك أن تدله على كتب جديرة بالقراءة. كما لم ينس أن يعلق على الكتاب الذي أهديته له، تعليقاً ذكياً كمكافأة .
في الكنيسة قالت لي ابنته، وهي دامعة : نقص قراؤك واحداً مهماً.
هذا الرجل الذي أحدثكم عنه…رحل عنا منذ سنوات ،كأنها أمس. مات ، هكذا ، فجأة كشمعة في ظلام أيامنا الراهنة. بكاه الكثيرون. تذكر مآثره الكثيرون. ظهرت في جنازته وعزائه كمية الحب الذي هو مؤسسه، وأمينه، ومربي زهرته الودودة…
إنه الدكتور توفيق البطل، الذي لم يمت، بل سجل في وجداننا، حضور الغياب!
ما زلت افتقده…
أمس كنت في حاجة،مرة اخرى ، ليس إلى طبيب…بل إلى حكيم .