الحل الأخير
فكرة قاسية وشريرة، ابتدعها العقل النازي في الحرب العالمية الثانية، وما زالت تعمل بها سياسات أوروبية كثيرة مدعومة بنزعات عنصرية وحركات إقصائية ساهم التطرف في استنهاضها، هذه الفكرة الجهنمية اسمها “الحل الأخير”، وهو اسم الخطة النازية الشهيرة، التي أطلقها أدولف أيخمان، أحد المسؤولين الكبار في الرايخ الثالث (1933 – 1945)، وضابط في القوات الخاصة الألمانية، وذلك لمعالجة المشكلة الألمانية المتمثلة في اليهود إبان الحرب العالمية الثانية (1945- 1949)، حيث دعت هذه الإستراتيجية إلى الترحيل القسري المنظم لليهود إلى معسكرات الأعمال الشاقة بهدف إبادتهم، ومن هنا جاءت فلسفة التخلي عن المسؤوليات.. في هذه الحالة أصبح الآخر يستريح لموت مصدر المشكلة المحيّرة كحل للمشكلة بل ذهب دعاة الكراهية وقادة العنصرية إلى مقارنات تنضح عارا ووحشية كقولهم بوجوب قتل البعوض وتجفيف المستنقعات في آن معا أو تشدقهم بالعبارة الفاشية “الآخر الجيد هو الآخر الميت أو حتى ما نشرته شارلي هيبدو، الصحيفة التي تعاطف الجميع معها في الهجمة الإرهابية التي استهدفتها ثم خيبت ظن محبيها حين نشرت رسما يوحي بأن الطفل إيلان، الذي لقي حتفه غرقا مع شقيقه ووالدته، خلال محاولتهم عبور البحر المتوسط من شواطئ تركيا إلى جزر اليونان برفقة لاجئين آخرين، في سبتمبر/ أيلول 2016، لو تمكن من العبور إلى أوروبا وبقي على قيد الحياة لصار إرهابيا.
هذا الطفل الذي مثل أيقونة مأساة هذا القرن، قدمه الفنان الإسباني اندريس لاسانتا خيمينو(57 عاما) من منظور جديد وقد ربط بينه وبين “بارت سمبسون”، الشخصية الوهمية الكرتونية الشهيرة في مسلسل الرسوم المتحركة “سمبسون” والذي يبث منذ ربع قرن، ويتمتع بنسبة مشاهدة مرتفعة للغاية في كل أنحاء العالم.
العمل الفني الذي أنجزه خيمينو، في مركز “كاسا دي باكاس”، في ساحة الرتيرو وسط العاصمة الإسبانية مدريد، عبارة عن مجسّم لجسد طفل ميت ملقى على الأرض، بالوضعية نفسها التي وجد عليها جسد الطفل السوري إيلان، وكذلك بملابس مشابهة وألوان مماثلة، بينما الرأس في هذا العمل هي رأس بارت سامبسون بل وحتى الأصابع الأربعة بدل الخمسة، وذلك تماهيا مع هذا البطل الكرتوني، إذ يقول الفنان الإسباني الذي رشح لجائزة صوفيا ” أنجزت هذا العمل الذي استفزني أكثر من أي عمل آخر، ووجدتني لشدة ما اندمجت في الشخصيتين أضع لإيلان أربعة أصابع فقط مثل بارت.. يا لها من مأساة حقيقية”.
هكذا تبدو مواضيع ومرجعيات هذا العمل الفني متفرقة ومختلفة في ظاهرها وسياقاتها، لكنها تحفر عميقا في الوجدان الإنساني، وكان على الفنان الإسباني أن يستدعيها ويجمعها في منجز فني واحد، ويتوجه بها إلى الضمير الأوروبي في رسالة شديدة الغضب وتنضح وجعا.. لعل الذكرى تنفع الأوروبيين والمؤمنين بوجوب استنهاض القيم العليا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وفعله إزاء موضوع الهجرة واللجوء، وكل من يطلب الغوث من الضفة الأخرى.
السؤال الذي يطرح: ما هذا الربط الذي قد يبدو سورياليا وغريبا بين صورة طفل ميت على الشاطئ، تختصر مأساة كل اللاجئين في مواجهة مصائرهم دون أياد تمتد إليهم، وبين ملهاة طفل كرتوني ينتمي إلى عائلة كرتونية، اسمه بارت سمبسون، والذي أبدعه الأميركي، مات غوروننغ، سنة 1986 ومن ثم جميع عائلة سمبسون بالتوالي؟
النقاد (والمؤلف نفسه) يؤكدون أن شخصية “بارت” كانت بدلا من اسمه لطفل العائلة المتمرد والتى تعادل كلمه “طفل بلا فائدة “، ويلاحظون بأن تمرد بارت، أدى بسبب عدم معاقبته وكذلك بالرغم من شقاوته، إلى جعل الآباء والأشخاص المتعصبين يقيمونه على أنه نموذج سيء للأطفال، وزعم المعلمون في المدارس أن بارت هو تهديد للتعليم وذلك استنادا إلى موقفه السلبي من التعليم، يضاف إليه عدم نجاحه ومفاخرته بعدم نجاحه، ويزيدون على ذلك وشعوره بأنه “أناني وعدواني وذو روح سيئة” .
هذه التوصيفات والانطباعات التي تثير الكثير من الالتباس والتناقض والتوجس حول شخصية بارت سمبسون، وظفها الفنان الإسباني وقاربها بالنظرة الأوروبية لقضية الطفل إيلان والخلفية التي يمثلها بالنسبة للنظرة الاستعلائية التي تنظر بها حكومات ومجتمعات أوروبية لمأساة اللاجئين والمهجرين، وترى في موتهم دون الوصول إلى أراضيها أنفس عذر وأفضل طريقة للتخلص منهم.
ليس هذا فقط ما أراده الفنان الإسباني من عملية المزاوجة والتماهي بين ايلان وبارت، وإنما حتما الإشارة إلى فجيعة واستهتار التعامل الأوروبي مع الطفل الميت على الشاطئ.. لقد أصبح أشبه بفيلم يسلّي العائلات الغربية مثل فيلم عائلة سمبسون بالتمام والكمال.
ويقول الفنان خيمينو “أحيانا كنت أقف حائراً بين تناقضات الحياة والتشابه بين مأساة إيلان وملهاة بارت سيمسون.. الفكرة هنا لا تتعلق بالسخرية، بقدر ما تتعلق بالمأساة المضحكة، لقد حاولت تجسيد انعكاسات فلسفة الإلهاء”، فبينما يعمد النظام العالمي إلى إلهاء الناس وصرف انتباههم عبر وسائل الإعلام تحدث المأساة الحقيقية، ويضيف الفنان صاحب العمل ذي البعد التسامحي الكبير “ما أحاول قوله قد يكون صعبا، لكن بطريقة ما الناس تهتم لبارت سيبسون أكثر مما تهتم لقضية اللاجئين”.
وبهذا العمل الفني ذي الأبعاد الإنسانية والسياسية، يكون الفنان اندريس لاسانتا خيمينو، قد أثار جدلا وجذب اهتماما واسعا بقضية اللاجئين السوريين وغيرهم، ورصد أزمة العقل الغربي في أوروبا، الذي بات قائما على الارتياح لموت مصدر المشكلة بدلا من البحث عن حل لها، وهو ما يقترب من منطق النازية وذريعتها في قتل اليهود، ولعل تسمية العمل من شأنها أن تشير إلى عدمية هذا العالم من خلال مقولة تجمع بين السخرية والألم وهي “الحل النهائي اضرب نفسك في صفر”.
وفي تعليقها على هذا العمل الفني، قالت الصحفية الإسبانية، لوثيا لوبيث: إن خيمينو مدهش حقا، وقد هالني العمل، شخصيا كنت ممن رشحوه للفوز هذا العام بجائزة الملكة صوفيا للفنون الجميلة، إنه عمل يجعلك تهتز من العمق، ويعطيك انطباعا كم أننا غارقون في نظام عالم ينحرف بنا كل يوم عن سكة القيم.