الحُطيئة، الشاعر الملعون: محاولة فهم سوسيولوجيّة (محمد الناجي)
محمد الناجي*
ترك الحُطيئة وصيّةً شهيرة إلى الأجيال المقبلة. لقد أمر، من على سرير موته، وبرغم تعليمات القرآن، بأن يتم توزيع إرثه بالتساوي بين أبنائه الذكور والإناث. والحُطيئة، الذي عاش زمن الرسول، تجرّأ على ما يخشى معظم مثقفي زمننا الحالي مجرّد التفكير به.
ما الذي يمكن أن يُقال عن هذه الوصيّة وعن هذا الشاعر؟ أيّ وظيفة تؤدّيها الصورة التي نحتفظ بها عنه؟ أيّ خصومات وأي تلاعُب يكمنان خلف السِيَر الرسمية المكتوبة عنه؟
استقى الشاعر كنيته من قصر قامته. يوصف الحُطيئة بأنه كان قزماً شديد القُبح. أُطلقت كنية الحُطيئة على شاعرنا انطلاقاً من فعل «حَطَأ» في العربية، المصطلح الذي يشير إلى وضعيات عدّة جميعها تتعلق بالاحتقار والانحطاط. ويشير «الحطْء» إلى تصرفات عنفية، كبطْح شخصٍ ما أرضاً، أي جعله يأكل التراب! المعنى الذي يهمّنا من مصطلح «حطأ» في هذا السياق تحديداً هو الإشارة إلى منزلة الشخص الدنيا أو إلى أشخاص قاصرين اجتماعياً، كالأطفال والنساء والعبيد.
إنّ عنف التصرف والازدراء اللذان يشير إليهما المصطلح، يحثّان على إعادة النظر بمسألة جذور كنية الشاعر الحُطيئة. هل حقاً أطلقت عليه لاعتبارات جسدية بحتة؟ فالفعل يشتمل على مروحة واسعة من المعاني، تبدأ من الانحطاط، مروراً بالقذارة، وصولاً إلى الزنا. بكلمة واحدة، حمل الحُطيئة علامات الخطيئة الأصلية.
نحن بذلك في قلب ميدان معركة ضد الشاعر الكبير، علامات المؤامرة المنظمة فيها واضحة للغاية. كان الحطيئة صاحب لغةٍ لاذعة، ويتحدث عنه أبو الفرج الأصفهاني، صاحب «الأغاني»، باعتباره «أحد الشعراء الكبار وأحد أفضلهم وأفصحهم، ممّن كرّسوا أنفسهم لجميع صنوف الشعر، من المديح إلى السخرية والأنساب، وقد تميّز في كل هذه الميادين». نحن أمام أستاذ حقيقي متملّك من فنّه بالكامل، وكرّس نفسه له إلى أقصى حدود. لقد حاولت جميع المواقف «العنصرية» المساقة ضده على خلفية كنيته، التصويب فعلياً ليس على قامته، ولكن بالتأكيد على نوعيّة شعره ومستواه. كان الجميع يخشاه كأنه الطاعون. ويشرح طه حسين، الذي يغدق المديح على مؤهلاته الشعرية وأسلوب كتابته، كيف أن الخوف منه هو ما أنتج هذه الصورة عنه كشاعر مسخ وقبيح، شيء مرعب نكره حتى رؤيته.
ما هي حصّة الواقع والخرافة في الصورة المكوّنة عن هذا الشاعر؟ الصورة المتجذرة في السرد الشفهي تشتمل على عناصر قابلة للنقاش، وربما ملفّقة بالكامل. فأيّ سيرة ذات مصداقية يمكن تكوينها عن فتى وُلد في البؤس، في وسط عائلي لا يملك شيئاً للفت الانتباه ولإثارة اهتمام نقّاد ذلك الزمن؟
فلنعد إلى الوصيّة التي تركها الحُطيئة. إنها عبارة عن انتقام تركه لما بعد وفاته من حرّاس الذاكرة المحافظين. حتّى بُنية الوصيّة تشهد على ذلك. فالحُطيئة، من على عبتة موته، أي في اللحظة التي يجعل الخوف أكثر المتمرّدين خاشعين أمام الله، لم يخطر في باله إلا الشعر وتقديس الكلمة. بدا وكأن عذاب القبر لم يسيطر على روحه بتاتاً. وقد أوصى بتوزيع ميراثه بشكل متساوٍ بين أبنائه وبناته. سُئل: «ألا تعرف أن الله سبحانه وتعالى أمر في كتابه المقدس بإعطاء الإناث نصف حصّة الذكور؟». يجيب الحُطيئة: «بلا، أعرف، لكن بما يتعلق بي، فأنا آمر بأن يتم إعطاء بناتي حصّة الذكور نفسها».
إننا أمام موت يقفل أبواب الجنّة أمام الشاعر. موت على نيّة شعراء المستقبل، إنذار على شكل دعوة. ولأنه لم يعرف كيف ينخرط في الصفّ، أو لم يرغب بذلك، تُرك الحُطيئة لنار جهنّم. الشعراء التافهون الذين لم يهتمّ الحُطيئة بنسج صداقات معهم، سعوا جاهدين لتخصيصه بجنازة جديرة بشخص منبوذ. وعلى الرغم من الإشادات بشعره، لم ينعم الحُطيئة برحمة كتّاب السيَر. فوفق إبن قتيبة، لم يعتنق الحُطيئة الإسلام إلا بعد وفاة الرسول، بدليل «أنني لم أسمع أنه ذُكر من بين الذين أتوا لزيارة الرسول». بجميع الأحوال، يضيف هذا الأخير أن إسلام الحُطيئة كان «رقيقاً» (سطحياً).
يجدر الأخذ بنقاط عدّة لفهم الهجمات التي تعرّض لها هذا الشاعر. بداية، فلنضع جانباً شعره وما يُزعم عن شرّه الشرس، وبخله الذي يُضرَب به المثل، وتهكّمه الذي لا نظير له، وجشعه غير المحدود. وبحسب متخصّصين، فإنّ روح التهكّم لديه لم تصل إلى مستوى غير اللائق، وهي لا تمسّ التقاليد بأي ضرر. ثمّ، هل نصنّف الشعراء بحسب درجة بخلهم؟ مَن مِنهم لم يتقاضَ المال من الملوك، مَن مِنهم لم يمدح ولم يلعن المتنفّذين؟ في تلك الحقبة، كان المال والتمجيد والسلطة والشعر يسيرون جنباً إلى جنب في المجتمع العربي. إنّ الحملة ضد الحطيئة كانت في المقام الأول ردة فعل طبقية للفئات المهيمنة ضد صعود شاعر ينتمي إلى الطبقات الأكثر فقراً. نحن أمام عنصرية صافية، ومكر يلجأ إلى محاجة جديرة بمدعي الورع نفاقاً.
والدة الحُطيئة كانت جارية، أما والده فمجهول الهوية، وهو بالتالي لم يترعرع في أفضل الظروف. كان اسم والدته «الضرَع»، وهو اسم يحيل إلى البؤس والوحدة. أما الرجل الذي تُنسَب إليه أبوّته فكان اسمه «الأفقم»، وهو نفسه ولد «غير شرعي»، وكان ذا مظهر شديد القُبح، مع ثقوب في الوجه بدل العيون. هكذا اختلق المجتمع للحُطيئة الوالد المناسب لتشويهه، إذ لم تتسامح النخبة المهيمنة آنذاك أبداً مع جذوره.
كان أكثر ما أراده الحطيئة الانتساب إلى نادي شعراء البلاط. وتذكر الوقائع لقاءه بحسان بن ثابت، الشاعر المفضَّل لدى الرسول. كان مصدر قوة حسان موقفه السياسي لا مستوى شعره. وينقل ابن قتيبة عن الأصمعي قوله: «إن الشعر ناكر للجميل والشر هو ميدانه المفضل، ولو وضع نفسه في خدمة الخير يضعف». وها هو حسان بن ثابت، أحد كبار شعراء الجاهلية يجد شِعره ينهار عند ظهور الإسلام… كان الإمام الشافعي، أحد الأئمة الأربعة الكبار للإسلام، معجباً بكتابات أبي النواس. كان يرى فيه معلِّم اللغة بلا منازع، ويودّ الإحالة إليه باستمرار لو لم يكن يعالج في شعره وكتاباته مواضيع تُعتبر من الممنوعات بالنسبة لمؤمنٍ محافظٍ. كما أنّ الشعراء الرديئين لم يكونوا متحرّرين، وبالتالي لم يحبّوا الحُطيئة قط، ذلك أن وجود شاعر صارم مثله ظلّ وفياً لقضية الشعر، لم يكن بالأمر المحبَّذ. كان الزبرقان، رفيق الرسول، هو المسؤول عن قيام عمر ابن الخطاب برذل الحُطيئة. كان شاعراً سيئاً، وعندما اشتكى الحطيئة لدى عمر، طلب هذا الأخير تحكيم حسان بن ثابت الذي دعا بدوره إلى معاقبة الحُطيئة نظراً لفداحة «جريمته». هكذا سُجن الحُطيئة في بئرٍ مظلمة، وكأنه أُعيد رميه الى الظلمات التي أتى منها.
مجدّداً، يجدر بنا اختيار المصطلحات الأكثر بلاغة من الوقائع. يدين الزبرقان باسمه إلى جمال هيئته، تماماً مثلما تُنسَب كنية الحطيئة إلى قبح مظهر الشاعر في المقلب الآخر. لكن أيضاً قد يكون من أسباب اختيار كنية الزبرقان، أنه كان يطلي بالزعفران عمامته التي كان يعتمرها. أضف إلى ذلك أنّ الزبرقان هو أحد أسماء القمر. وعندما أراد الزبرقان أن يرشد الحُطيئة إلى مكان إقامته لعقد لقائهما الأول، خاطبه قائلاً: اصعد على هذه الجِمال، إتّجه شرقاً واسأل القمر حتى تصل إليّ». ومَن لا يعرف النجوم؟ جذّر مصطلح القمر من «القُمرة»، أي اللون الأبيض الباهت قليلاً. يجدر هنا التعاطي مع الألوان وأبعادها من ناحية أنساب كل من الرجلين. فمن جهة الزبرقان، لدينا بياض نقي ونموذجي، في مقابل سواد وانعدام نقاء الحطيئة. هذا التقابل بين الجليّ والقاتم، وبين الأبيض والأسود، بين الرجل الحرّ في مقابل العبد، يبدو شديد الوضوح. هكذا قرر الزبرقان أن يتبختر بغرور وأن ينتقم لوضاعة شعره من خلال نقل المنافسة من الأدب إلى النسب.
كانت تلك هجمات بالغة الأذى بالنسبة للحُطيئة الذي لفظته روح العصر. لقد بنى الرجل قوته في مجتمع قبلي، بينما كانت بيئته الأصلية مختلفة. وفي حين كان محروماً من سُمعة عائلية استثنائية، امتلك الحُطيئة نفوذاً بين النبلاء، وأجاد اللعب على تناقضاتهم ومنافساتهم القبلية. ثم أحدث ظهور الإسلام تغييرات كبيرة، إذ تكوّنت بنية اجتماعية أشد هرميّة، ولا تترك مجالاً واسعاً للإبداع الحر. ولم يكن للسلطة الجديدة المؤسسة على الرمزية الاستثنائية لعدد محدود من الأشخاص، منطق يمكن الاعتداد به سوى الدين الجديد. كان ذلك وسط غير مناسب بتاتاً لشعر حرّ بالكامل في اختيار مواضيعه.
في ظل المجتمع الجديد، كان طبيعياً أن يجد شاعر هامشي كالحطيئة نفسه محجَّماً. وقد وقع محتقروه على الظرف المناسب لتوجيه الضربة القاضية له. وكانت علاقته بالدين الجديد نقطة ضعفه، فضلاً عن جذوره العائلية المتواضعة. يحلو لي الاعتقاد أنّ وصيّته الأخير بتوزيع ميراثه بالمساواة بين أبنائه الذكور والإناث، كانت مجرد اختراع من أعدائه. كما يحلو لي الاعتقاد أيضاً أن قبح مظهره الذي يُضرب به المثل هو قبل كل شيء، قُبح الآخر، قُبح نظرة الرقيب المتطفّلة. وبالنسبة لأعداء الحُطيئة، لم يكن هناك فرصة أفضل لتصفية حساباتهم مع رجل يمتلك هذا القدر من الانتشار، إلا من خلال تصويره كأنه مخبر حرّاس جهنّم. فالمطالبة بمساواة الرجل والمرأة موجودة منذ ولادة الإسلام. لكن نسْب هذه المطالبة إلى شاعر تمّ تكفيره ولعنه أصلاً، يؤدّي إلى لعن جميع النساء والرجال الذين قد يفكرون برفع هذا المطلب.
* مؤرّخ وأستاذ السوسيولوجيا الاقتصاديّة في جامعة محمد الخامس، الرباط
صحيفة السفير اللبنانية (السفير العربي)