بلا حدود

الخصوصية في شعوب بلاد الشام | مقاربة شاملة لجذور الهوية ومظاهرها

ماهر المملوك

لا شكّ في أنّ شعوب بلاد الشام تمتلك خصوصية فريدة قلّ نظيرها بين شعوب الأرض، خصوصية تبلورت عبر آلاف السنين من التفاعل الحضاري، والاختلاط السكاني، والتحولات السياسية والاقتصادية والدينية والفكرية. فالركن الجغرافي الذي يشغله الإقليم الممتد من سوريا إلى لبنان والأردن وفلسطين لم يكن يومًا مجرد مساحة جغرافية عابرة، بل كان مفترق طرق حضاريًا تتقاطع فيه آسيا بأفريقيا وأوروبا، وتختلط فيه الإمبراطوريات والمعتقدات والتجارات والهجرات، لتنتج نموذجًا بشريًا فريدًا في خصائصه الإيجابية والسلبية على حدّ سواء.

فكانت الجغرافيا فاعل أساسي في تشكيل الشخصية الشامية وارتبطت هوية شعوب بلاد الشام بالموقع الجغرافي الذي حدد مسارات حياتهم منذ بدايات التاريخ. فالإقليم لطالما كان ممرًا للقوافل التجارية بين الشرق والغرب، ومركزًا زراعيًا يعتمد على وفرة المياه وخصوبة السهول، وفضاءً مفتوحًا للهجرات والتبادل الثقافي.

ومع أنّ هذه المزايا جلبت للاقتصادات المحلية ازدهارًا في فترات طويلة من التاريخ، إلا أنّها عرضتها كذلك لصراعات القوى الكبرى، ما جعل الشخصية الشامية أكثر حذرًا ووعيًا بالمتغيرات السياسية وأكثر قدرة على التكيّف.

فموضوع الكدّ والعمل هو حقيقة خصلة اجتماعية راسخة تميّزت بها شعوب بلاد الشام، منذ القديم وحتى اليوم، بحبّ العمل والإنتاج والاعتماد على الذات. فقد شكّلت الزراعة ولا تزال عنصرًا أساسيًا في تكوين الطبائع الاجتماعية ونسج العلاقات داخل الأسرة والمجتمع.

هذا الارتباط بالأرض خلق صلة وجدانية عميقة لدى أبناء المنطقة، وجعلهم يعتزون بالجدّ والاجتهاد، ويعتبرون الكدّ وسيلة أساسية لبناء الذات والتقدم. ومن هنا برزت ميزة واضحة: الشامي يرفض الاتكال، ويُعرف بإتقانه للمهنة التي يمارسها، سواء في الحرف التقليدية أو التجارة أو الزراعة أو الصناعات الحديثة.

كذلك التنوع الديني والإثني والذي هو مصدر غنى وتحدٍّ في آن واحد والتي تُعدّ بلاد الشام من أكثر مناطق العالم تنوعًا في أنسجتها السكانية، إذ تحتضن أقليات دينية وإثنية وثقافية عاشت لقرون طويلة جنبًا إلى جنب.

هذا التنوع خلق فضاءً ثقافيًا غنيًا مكّن المنطقة من إنتاج فكر فلسفي وروحي عميق، كما جعل شعوبها أكثر تقبّلًا للاختلاف والتعددية.

لكن لهذا التنوع وجهًا آخر؛ فقد كان في أحيان كثيرة سببًا للتوترات، حينما تحوّلت الهويات الثانوية إلى أدوات للصراع السياسي والاجتماعي. وهنا برزت سمة أخرى لدى المجتمع الشامي: القدرة على تجاوز الأزمات والتكيف مع التحولات، مع الاحتفاظ بقدر كبير من التلاحم الاجتماعي رغم الصراعات المتعاقبة.

وبخصوص النزعة إلى التعليم والثقافة فيحمل الشامي علاقة خاصة بالمعرفة، فهي علاقة تأسست عبر قرون من الانفتاح على الفكر الإغريقي والروماني والعربي الإسلامي والعثماني والحديث.

ظهرت مراكز التعليم الأولى في المنطقة منذ العصور القديمة، وتطوّرت لاحقًا لتصبح بلاد الشام منبعًا للمدارس والجامعات والصحافة والفنون.

ولعلّ من أبرز ملامح الشخصية الشامية الارتباط الوثيق بالثقافة والإنتاج الأدبي والفكري، وهو ما يفسر ازدهار الصحافة الشامية في مطلع القرن العشرين، ودور مثقفي المنطقة في النهضة العربية الحديثة.

اما التميز الأكبر في هذه الشعوب الشامية هو  المرونة الاجتماعية والقدرة على التكيف فلقد واجهت شعوب بلاد الشام تحولات سياسية واقتصادية متلاحقة، من الاحتلالات القديمة إلى الانتداب، ومن بناء الدول الحديثة إلى الأزمات المعاصرة.

ورغم ذلك، لم تفقد هذه المجتمعات قدرتها الفريدة على إعادة تشكيل نفسها واستعادة توازنها. فالهجرة الداخلية والخارجية التي شكّلت ظاهرة ملازمة لتاريخ الإقليم لم تُضعف صلة الفرد بهويته، بل رسّخت لديه شعورًا مزدوجًا بالانتماء المحلي والانفتاح العالمي.

هذه الخصوصية جعلت الشامي (بالمعنى المطلق لأهل بلاد الشام) قادرًا على النجاح في البيئات الجديدة، مع حفاظه على شبكة علاقات اجتماعية متماسكة تتجاوز الحدود الجغرافية.

فكما لكل مجتمع ميزاته، فإن لشعوب بلاد الشام أيضًا سمات سلبية تتجلى في بعض مراحل التاريخ. من أبرزها النزعة إلى المبالغة في العاطفة، والتعقيد في المواقف اليومية، والتأثر السريع بالسياسة والخطابات الأيديولوجية، إضافةً إلى حساسية مفرطة تجاه الانتماءات الدينية أو العائلية.

وقد ساهمت الظروف السياسية المضطربة والإرث الطويل من الصراعات في تكريس بعض هذه السلوكيات، التي غالبًا ما تُضعف القدرة على بناء عمل جماعي منظم أو مؤسسات مستدامة.

ومع ذلك، لا يمكن فصل هذه الخصائص السلبية عن السياق العام الذي نشأت فيه، فهي ليست سمات جوهرية بقدر ما هي انعكاس طبيعي للتاريخ الاجتماعي والسياسي الذي عاشته المنطقة.

واقتصاديًا، تميّزت بلاد الشام عبر القرون بمهارة سكانها في التجارة والزراعة والحرف. لكن الاضطرابات السياسية والتدخلات الخارجية وغياب الاستقرار المؤسسي جعلت اقتصادات المنطقة تعيش تقلبات كبيرة.

ورغم ذلك، احتفظ أبناء الشام بقدرة لافتة على المبادرة الفردية، وعلى خلق الفرص في الداخل والخارج، وهو ما يفسر انتشارهم الواسع في أسواق المنطقة والعالم ونجاحهم المتكرلر في الأعمال الصغيرة والمتوسطة.

في ختام القول يمكننا القول إن خصوصية شعوب بلاد الشام ليست مجرد سمات اجتماعية أو مزايا جغرافية، بل هي هوية مركبة تتشابك فيها عناصر التاريخ والجغرافيا والثقافة والاقتصاد والدين.

إنها هوية تحمل في طياتها القوة والضعف، الانفتاح والانغلاق، العاطفة والعقل، الصلابة والمرونة.

ومع أنّ المنطقة تعيش اليوم مرحلة من الاضطراب والتحديات العميقة، فإن الشعوب الشامية أثبتت عبر التاريخ قدرتها على النهوض من جديد، وإعادة صياغة ذاتها، وصنع مستقبل يتجاوز حدود الأزمات. فهذه الخصوصية ليست مجرد وصف، بل هي مصدر قوة كامنة تواصل تشكيل الشخصية الشامية جيلاً بعد جيل.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى