الخلق الجديد في “الطريق الرابع”

 

يفوقُ النص الروائي على القول الفلسفي في توفير مساحة أرحب للحوار بين الأفكار المُتابينة والرؤى المُختلفة، كما أنَّ تطويع الرواية لمناقشة هواجس الإنسان والأسئلةِ التي تراوده بالإستمرار بشأن المستقبل، وما يؤول إليه المصير وشكل الحياة يصبحُ آليةً لتحقيق الحيادية في تناولِ الثيمات المشحونة بالحس المعرفي، وقد يكمنُ التحدي الأصعب بالنسبة لروايات الأفكار في البحث عن الصيغة التي تؤكدُ الهوية الفنية للنص الأدبي وتعبرُ بالإنسيابية عن الإشكاليات الفكرية في آن واحد. 

صحيح أنَّ تشبيكات الرواية مع الفلسفة تزيدُ إمكانية تسريب الهموم الفكرية إلى أوردة أي نص روائي بقطع النظر عن تشكيلته وموضوعه، لكن عندما يعومُ السردُ الروائي في أثير الخيال العلمي أو الجدل الفلسفي فمن الضروري تمرير الألفاظ والمعلومات المقتبسة من الحقول المعرفية بحيثُ تتناغمُ مع البناء الفني للرواية، وبهذا يتمُ توفير المعرفة وعنصر الإمتاع في تركيبة النص.

طبعاً ثمة من يرى بأنَّ الكلامَ عن الإختلاف بين المجالات الفنية والعلمية والفلسفية لم يعدْ مقنعاً، لأنَّ كل ذلك يمثلُ أشكالاً متعددة للنشاط الإنساني، هذا إضافة إلى إنضواء هذه المساعي المتنوعة ضمن غاية واحدة، وهي سد الثغرات القائمة في حياة الكائن البشري، ومن هنا نفهم مؤدى ما يقولهُ ريتشارد روتي بأنَّ الفلسفة صارت ضرباً من الجنس الأدبي فعلاً، أنَّ الرواية قد حلت مكان التنظيرات الفلسفية المُجردة، فقد سبق لكامو أن رأى في كتابة الرواية مطلباً لا تكتملُ بدونه عملية التفلسف. فما قدمتهُ الكاتبة اللبنانية ناتالي الخوري غريب في روايتها المعنونة بـ “الطريق الرابع” – نينوى 2021  – معدنا مادتهُ من المعرفة الفلسفية والعلمية ناهيك عن نفحات روحانية مبثوثة في أجوائه.

يكتسبُ النصُ الأدبي تأثيراً مُضاعفاً عندما يدركُ المؤلفُ ضرورة تحديد المساحة التي يتحركُ فيها، ويختارُ صيغة مناسبة للتعبير عن الفكرة التي يشتغلُ عليها، إذاً أنَّ المستوى البنائي هو من مقومات أساسية في تشكيلة العمل الروائي، وهذا ما ألمتْ به ناتالي الخوري في أجندتها الروائية إذ أن المكونات السردية تخدمُ المضمون الفكري وتشي عن الحمولات الفلسفية، وما يضيفُ مزيداً من الخصوصية إلى “الطريق الرابع” هو خروج المفردات والأسماء من معناها المُعجمي وإتخاذها دلالة رمزية الأمر الذي لا يصعبُ عليك رصد منحاه بمجرد التأمل في مفردة العنوان إذ أنَّ ما ينبسطُ على شريط الرواية إمتدادُ لإيحاءات متكنزة في العتبة الأولى، ويتناولُ المحتوى الطرق التي تتخذها الشخصياتُ في بحثها الهادف لبناء حياة جديدة بعيداً عن المستندات التي وسمت مسلكها سابقاً. وتنشأُ هذه الرغبة في المكان الذي يضمُ لفيفا من الأشخاص الذين يعانون من العقدة مع الماضي. 

يذكرُ أنَّ ناتالي قد نزحت عن شكل المكان المعهود في الروايات العربية “المقهى، الحارة، السجن، الفندق”، وتتواصلُ شخصياتها المنحوتة بحس الفنان في غرفة تابعة لمبنى الميتم، في الواقع أنَّ هذه البنية المكانية التي تضاهي رواق زينون في تصميمها هي الإختيار الأمثل للروايات الفكرية، تماماً مثلما ترى ذلك في رواية “علاج شوبنهاور” للأميركي إرفين.د يالوم، لا يذوب الجليد بين القاريء والنص إلا من خلال تمكن المؤلف في سبك العبارات الإستهلالية التي تضعُ المتلقي بوجه الإحتمالات المتعددة وبذلك يكونُ المُرسل إليه طرفاً مُتفاعلاً في انتظام السيرورة السردية، فبالتالي تتوالدُ التوقعاتُ مع مضي السرد وتوالي فصول الرواية.

والحالُ هذه تستبطنُ صاحبة “حين تعشق العقول” الأسئلة التي تراودُ ناردين بشأنِ علاقتها مع آدم، وما يسوغُ الأسلوب الإنشائي المعبر عن التوتر في هذا السياق هو وجود تشظي الشخصية التي وظفت الكاتبةُ المرآة للإبانة عن رغبتها العارمة للمضي قدماً مع آدم من جهة، وربيتها من نهاية الطريق، وما ينتهي بها الحلم النزق من جهة أخرى.

والمعنى المضمر فيما تنطقُ به ناردين، وهي تخاطب ذاتها الأخرى “لا تحبي أحداً أكثر من نفسك، لن يبقى لك إلا أنت” أقرب من نصحية إميل سيوران “على الإنسان أن يتعوّد على أن يكون بمفرده أكثر مما يتعوّد على الاختلاط بالآخرين”. يمتدُ قلقُ ناردين إلى لحظة مواعدتها مع آدم ويهمها إختيار ما يناسب ذلك الموقف وما تلبثُ أن تبدأَ بمساءلة نفسها بعد العودة من اللقاء مستعيدةً حيثيات جلسة أصحابها المشتركة في دورة فن الحياة ملمحةً إلى ما تتميزُ بها شخصيات الشلة بدءاً من بيللا وديما مروراً بآدم ودانيال وصولاً إلى المدرب النفسي سامر، إلى هنا يفتحُ مفصل جديد من الرواية يكونُ للحوار نصيب أوفر من بين التقنيات السردية في ترتيبه.

الحلقة الأولى من سلسلة الحفر في أدراج الذاكرة يفتتحها آدم الذي يفهمُ مما  يبوحُ به بأنّه كان يعاني من عقدة مركبة، إذ لم تتحملْ أمه التعهد به كونه مشوه الشكل لذا عاش طفولته في الميتم، وهناك أيضاً ذاق مرارة خسارة من أحبهم وجه الملاك، دوري ودورا، لقد تبنت العائلات هؤلاء الأطفال فيما عزف الجميع بإستثناء الطاهية عن إبداء التعاطف مع آدم، لكنَّ الأخير يعوضُ خيباته بالتهام الكتب والتفوق في الدراسة إلى أن ذاع صيته. ومنذ ذاك الوقت أصبح حلمه قيد ما بعد مرحلة الإنسانية. وما يحققهُ من النجاح في إحدى الجامعات البريطانية يعمقُ إيمانه بالعلم وينسلخُ من شكله الجديد بفضل العلم، وبذلك يفكّ عقدته التي نغضت طفولته لكنَ طموحه أكبر من أن تنتهي عند هذه المحطة.

وما أن يتوقفُ آدم عن سرد اعترافاته حتى يفتح القوسُ لإعترافات دانيال، فالأخير أيضاَ تنهش عقدة الذنب أعماقه، وتحمله أختهُ مسؤولية مقتل والديهما. أما ديما فهي تشغلهُ معاناة الأمهات اللاتي يتكفلنَ بإعالة الأسرة، ولم تكنْ متصالحة مع والدها إذ ما أن يرحل الأخير حتى تظهر امرأة تطالبُ بنصيبها من الإرث، وهي لم تكن سوى أخت دانيال الذي هام في حب ديما. وما دفعَ ببيللا لإنضمام إلى المجموعة هو تصدع علاقتها مع زوجها فريد. هكذا يتم تعدين الشخصيات مع الإبانة عن  خلفيتها الفكرية والإجتماعية، والإضاءة لمستواها النفسي طبعاً تعولُ ناتالي على الحوار للكشف عن أبعاد الشخصيات وموجهاتها الذاتية.

الرحلة

تعتمدُ الروايات المعرفية على ثيمة الرحلة واللافتُ في “الطريق الرابع” أنَّ أحداثها تدور ضمن الأمكنة المُغلقة أو المحدودة قبل أن يتفقَ أفراد الشلة على القيام بالرحلة، إذ يتمُ تحديد المواقع في برنامج السفر، ومن الواضح أنَّ الرحلة الخارجية يوازيها السفر على المستوى الداخلي والتمحيص للأفكار والمُعتقدات، مديغورييه هي المحطة الأولى، هناك ستجدُ ديما ضالتها وتستعيد سلامها الداخلي في هذا المكان المتشبع بالروحانية، كما تتحررُ من عقدة قتل الأب.

هنا يلاحظُ العدول عن أسطورة أوديب، فالابنةُ بدلاً من الابن تكنُّ الكراهية للأب، وستكونُ كاتماندو عاصمة نيبال المحطة التالية لبرنامج الرحلة، إذ يستفيضُ هذا الفصل بمعلومات عن الديانة البوذية، ويصبحُ التواصل الجسدي بين ناردين وآدم في فضاء الطبيعة وجهاً آخر للصفاء الروحي، إذ تنوبُ لغة الجسد مكان الكلمات التي قد تتبدلُ وتقتبس بينما تعابير الجسد لا تكذب. 

يربحُ دانيال الأمان النفسي في نيبال، ومن ثُمَّ تنتهي الرحلةُ بباريس، هناك ستقومُ ناردين بإجراء الحوار مع الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل حيث تفردُ المؤلفة مساحة لأفكار صاحب “روح الإلحاد”، كما تنجزُ بيللا حواراً مع ميلان كونديرا والأهم في هذا العمل الروائي هو مشروع آدم الذي يرمزُ اسمهُ لبداية خليقة جديدة. وفي ذلك يراهنُ على العلم والتعديلات الجينية، ما يعني وجود آدم علمي مقابل آدم لاهوتي، يشارُ إلى أنَّ لغة هذه الشخصية تتموضع في حقل المفردات العلمية. 

ويبدو أنَّ آدم يقتنع بالعلم أكثر من الدكتور سكريتا في “رقصة الوداع”، وما يشحن النص بالتوتر هو الثقب الأسود للعدمية التي تسحبُ مشروع آدم إلى اللامعنى عندما يموتُ الأخير متأثراً بعضة الكلب، يتفاجأُ القاريءُ بما يحتوي عليه مغلف أرسله آدم إلى ناردين قبل موته إذ أن أصدقاء الرحلة حسب الكلام الوارد فيه ليسوا إلا الأطفال الذين تعرفَ عليهم آدم في الميتم، وذاق مرارة فراقهم قبل إستعادتهم من خلال مناورة العلاج النفسي. إذاً وأنت تصل إلى نهاية الأحداث تتذكرُ الحركة الأولى، وهذا من مؤشرات المنجز الأدبي برأي ميلان كونديرا. 

ما يجدرُ بالإشارة أنَّ هذا العمل الروائي يتفاعل مع النصوص الفلسفية والأدبية، كما أن الغرض الإستكشافي هو ملمحُ بارز لهويته، ومضمونه المتشابك مع التيارات المعرفية هو ما يحددُ المدخل المناسب لمقاربته. ضف إلى ما سبق فإنَّ الكاتبة أنشأت فضاءً تتجاورُ فيه الخطاباتُ المعبرة عن الإنفتاح على التعددية.

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى