الدراما التلفزيونية في رمضان .. إنجاز .. ولكن !

 

كان إنجاز أعمال رمضان من مسلسلات درامية، رغم الكورونا والحجر، ووقف التصوير، ومنع التجول، نجاحاً لصناع هذه الأعمال. و لكن هل يجوز لنا، بسبب الكورونا أن نغفل عن حال هذه الدراما التلفزيونية وتوجهاتها، خاصة وأننا نعدها الثقافة الشعبية الأوسع إنتشاراً، والأكثر تأثيراً؟؟. لذلك سنورد بعض الملاحظات كإقتراح لفتح الحوار حول هذا الفن الشعبي المؤثر وهي كما يلي :

بشكل عام كان الإبداع الدرامي ضعيفاً وغلبت الفبركات، والتركيبات المصطنعة على معظم قصص الأعمال. وكان سبب ذلك، إما لأمر دعائي، أو لضعف التأليف، أو لسطوة وتعدي إخراج هزيل، أو لإستثمار نجوم أعتاد الجمهور متابعتهم.

بسبب الحرص على إنجاز الأعمال لتعرض في رمضان، وبسبب كورونا وغيرها عمد المنتجون و المخرجون إلى (الحذف) وعندما يطال هذا الحذف ثلث العمل أو نصفه، يصبح تأثيرها فجائعياً على طبيعة الدراما وتماسكها، وهذا ما شوش الدراما وأربكها وأسكن الفوضى في سياقاتها، وإنني لأشفق على الزملاء الكتاب الذين وجدوا أعمالهم وقد تعرضت لمذابح على أيدي غيرهم من مخرجين أو مساعدي الإخراج أو المنتجين، دون إستشارتهم، وهذا سببه آلية العمل الدرامي عندنا والتي تبيح النص لمزاجية الإخراج أو الإنتاج، والمصيبة إذا كانت ثقافة وموهبة المخرج التأليفية ضحلة أو باهتة أو معدومة.أما المخرج المحترم فهو أساساً لا يمس دور المؤلف و يتعاون بإحترام معه..

هناك نسبة من الأعمال مفصلة لخدمة نجم، أو نجم ونجمة، وبسبب سطوة النجوم و علاقاتهم، وميل المنتجين لاستثمار نجوميتهم، فإن الكتابة تصبح في خدمتهم ويجبر النص أن يذهب ليلائم النجم أوالنجمة، أو لما يريدونه ولما يحبون أن يظهروا به. و بدلاً من أن يقوم النجم أوالنجمة بخدمة النص عبر تجسيد المكتوب، وتحويل الشخصيات المكتوبة إلى شخصيات حية (و هذا ما يفعله من  نجومنا المثقفون بعكس من نقصدهم) يفرض على النص أن يخدم ما يراه النجم، أو ما يزيد من شعبيته وبالإتجاه الذي يراه. و هكذا تتحول النصوص من حاملة لصراع وعلاقات و قضية ومعرفة، إلى حاملة لإستعراض بطولات أو ظرافات أو مغامرات النجم، و ترويجه وفق ما يرى. و بذلك يصبح الكاتب للأسف، كما قال أحد النجوم اللبنانيين: وإذا كان الكاتب ترزي, فإن المخرج في هذه الحالة( اللبيس) من يلبس النجم أو النجمة ما طلبوه من الترزي ( الخياط). وكله إستعراض، وكله مضيعة لطبيعة الدراما القائمة على قصة يخلقها الصراع المعبر عن معاني الحياة التي تصورها القصة، بما يغني معرفة الإنسان بحياته، ويمتعه بهذه المعرفة، و بإبداع النجوم و التصوير والإخراج وكل تفاصيل هذا الفن الساحرالذي يبدعه المبدعون الحقيقيون.

 

 

 

 

 

 

من أعمال هذا الموسم, التي لفتت الأنظار، مسلسل ( حارس القدس) تأليف حسن م يوسف وإخراج باسل الخطيب. أمتاز المسلسل بالتوجه بالإنتاج إلى تجسيد تجربة روحية وطنية تاريخية، مثلتها حياة المطران السوري إيلاريون كبوجي. وإيجابية هذا التوجه تتمثل في إعادة الدراما التلفزيونية إلى وظيفتها في إنتاج (المتعة المعرفية) عبر الغوص في تجارب الحياة والتاريخ، والإنسانية، والروحية، و الوطنية التي تعمق إحساس المشاهد بقضاياه وتاريخه ورموزه. وهذا ما ميز (حارس القدس) ولكن ما أضر هذا التوجه، أو لنقل ما أثار النقاش والجدل، هو إعتماد صيغة من الخطاب الدائي السياسوي، تتقاطع فنياً للمشاهد. علماً أن المسلسل ضم مشاهد قدمت إدهاشاً ممتعاً ومعمقاً للحق الفلسطيني، عبر إستشهاد كبوجي بقراءةمقاطع من الكتب المقدسة، وتقديمها كأداة لا تدحض لحق الشعب الفلسطيني بأرضه. وهذه المشاهد المؤثرة بفنيتها والأعمق في إقناعها هي ما يكشف المشاهد التي أعتمدت صيغ الدعاية اللفظية التي أضعفت من قوة المسلسل وتأثيره في جذب المشاهد للمتابعة، وفي ترسيخ المفاهيم العالية للطروحات التاريخية والإنسانية و الروحية بشخصية المطران كبوجي عبر تقديم هذه التجربة عن الإحساس الروحي الإنساني بالحق والعدل والوطن كأساس لمحبة الله، و تجسيداً للخلاص الإنساني. و كما يستحق هذا العمل وهذا التوجه التقدير، فإنه يوجب النقاش للحفاظ على إيجابياته وتأثيره كفن جميل وجذاب ومعبر، وحامل للرسالة المعرفية بصيغة إبداعية، بعيدة عن كل ما يضرها من دعائية، أو صيغ خطابية لم تعد مقبولة للمشاهد، لكثرة ما أستعملت بسماجة في البرامج السياسية الدعائية… كما يعيد هذا العمل تصويب وظيفة (مؤسسة الانتاج التلفزيوني) كجهة وطنية مهمتها إنتاج الأعمال الرائدة لتشكل مساراً للإنتاج الدرامي الخاص والعام.

 

 

 

 

 

 

 

 

بعدما تسبب مسلسل ( باب الحارة) بشق مسار في سوق الدراما، غلب عليه الكثير من الإستسهال والإستعراض، بتقديم صورة مشوهة وسطحية لبيئة المجتمع الدمشقي، لتحقيق أغراض التسلية السطحية والبعيدة كل البعد عن التعبير عن الشام و اهلها. بعد كل ذلك, يقدم بسام الملا هذا العام ( سوق الحرير) و يسجل له إبتعاده عن أجواء باب الحارة، وسخافاته، وتوجهه إلى محاولة تناول درامي للمجتمع الدمشقي يسعى لإحترام المرحلة التاريخية. وهذا التوجه كان قد بادر إليه الملا في الجزء الأخير من باب الحارة الذي حيل دون تنفيذه بسبب أطماع جهات إنتاجية أخرى في الإستيلاء عليه. المهم أننا و مع تسجيل التقدير لكل ذلك، لا بد أن نعترف أن (سوق الحرير) أفتقد لأجواء الفرجة الشعبية في السوق والحارة والمقهى التي يبرع بتقديمها الملا. كما عاب المسلسل بعض الفبركات الولادية للأحداث، وبعض المسارات الساذجة لها. ربما كان مرد ذلك إلى صعوبات التصوير في زمن الحجر والكورونا وربما إلى الإضطرار للإختصار، مما كانت من أسباب هذه العيوبالتي غطاها أو مررها أداء النجوم المشاركين، و توجه المخرج مؤمن الملا إلى إعتماد واقعية مستندة إلى معطيات تاريخية، وهو توجه نجح في فتح الباب للإبتعاد أكثر عن سخف باب الحارة، لكنه مازال يحتاج إلى الكثير من الإنخراط في معاني الشخصيات، وتعميق الصراعات الدرامية، وتقديم رؤية للمرحلة التاريخية وليس الإكتفاء بذكر التواريخ و الأسماء.. . ( سوق الحرير) سجل بداية إبتعاد بسام الملا عن بلاوي باب الحارة الأمر الذي يحمله مع مؤمن مسؤولية الحرص أكثر على الدراما والصراعات وبناء الشخصيات بما يتناسب مع ذكاء وفطنة المجتمع الشامي المتناول.. فهل يحقق الملا التقدم أكثر في هذا الإتجاه؟؟ سنرى!!

هناك أعمال عديدة لفتت النظر وقدمت معالجة لأحداث عصرية منها ( ولاد آدم – الساحر – مقابلة مع السيد آدم – النحات ) وكلها تستحق النظر والنقاش لمستواها الدرامي, مثل ولاد آدم، ومقابلة مع السيد آدم، ومنها ما يثير الجدل حول التسلية الدرامية وتقديم شخصية طريفة وجذابة، مثل الساحر، خاصة وأن بعض هذه التجارب تشكل علامات في مسار الدراما المعاصرة، يستوجب التوقف عنده كي لا يصبح تعميقاً لطريق يأخذ الدراما التلفزيونية بعيداً عن وظيفتها, وتستحق هذه الدراما المعاصرة النقاش لتثمير عناصر الجودة فيها، وبما يعطيها حقها كإبداع معبر ومؤثر، و بما يخلصها من شوائب الإستعراض و السطحية والتفاهة.

منذ سنوات وشراكة الدراما التلفزيونية السورية مع الدراما اللبنانية تحقق نجاحات جيدة وواعدة فنياً، وتعكس إمكانيات ممتازة في جميع عناصر الإبداع، والإنتاج، والتوزيع، ما يفتح المجال واسعاً أمام هذه الشراكة الإبداعية الإنتاجية لتنتج أعمالاً أكثر إبداعاً و تأثيراً ورواجاً، و هذا يحتاج إلى جهود منسقة و مدروسة لتعميق و تطوير هذه الشراكة بالإتجاه الصحيح.

أخيراً, بالرغم من الكورونا، و رغم تقديرنا لأي إنجاز درامي يتجاوز الصعوبات و الحجر، فإننا نحرص على الدفع بإستمرار نحو نقاش يحاور ما ينتج من أعمال درامية، ويدرس عناصر الجودة فيها، ومكامن الضعف، علّنا نستثمر إمكانياتنا الدرامية, بما يعبر عن عمق وغنى مجتمعنا الحضاري المتفاعل. و يقدم رؤية إبداعية لقضاينا وإنساننا وأرواحنا وتطلعاتنا و…و…و . المهم أن نستمر في الحوار لتحقيق هويتنا الإبداعية المغيب جزء كبير منها.

باب الشرق 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى