الدعوة التركية للتصفية لا للتطبيع

تعود العلاقة بين تركيا وقضية فلسطين الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما كانت فلسطين في القانون الدولي تقع ضمن الامبراطورية العثمانية، حيث بدأت المجموعات الاولى للمهاجرين اليهود الاوروبيين الاوائل بالتدفق إلى فلسطين والاستقرار فيها، بشكل لافت للنظر منذ ثمانينيات القرن.
ولما انعقد المؤتمر الاول للحركة الصهيونية في أواخر القرن، واتُخذ القرار الصهيوني النهائي باختيار فلسطين أرضا لبناء مشروع الوطن القومي لليهود، بين مواقع أخرى في اميركا اللاتينية وافريقيا، بدأت اوساط الحركة الصهيونية الاتصال المباشر بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، لإغرائه بالمال من اجل الحصول على مقر لمشروعهم في ارض فلسطين.
المراجع التاريخية تتحدث عن اكثر من موقف اتخذه السلطان. ومع ان معظم المراجع تشير الى انه لم يتجاوب نهائيا مع الاتصالات الصهيونية، وأظهر رفضاً قاطعاً لها، فان مراجع اخرى اشارت الى ان الرفض كان عاما، وان ذلك لم يمنع السلطان العثماني طيلة الفترة المتبقية له في الحكم، من غض النظر عن تزايد حملات هجرة اليهود الاوروبيين بالذات الى فلسطين، واقامة مشاريع الاستقرار الزراعي والاقتصادي فيها، تمهيدا لإقامة الكيان الصهيوني بعد تحويل الاتصالات الصهيونية الاساسية الى دولة بريطانيا «المنتدبة» على فلسطين في اعقاب الحرب العالمية الاولى.
ولما جاءت المحطة الثانية في منتصف القرن العشرين، كانت دولة تركيا العلمانية، بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، قد انضمت تماما الى مجموعة الدول التي وافقت على قرار تقسيم فلسطين، ثم عادت وتعمقت بعد انشاء دولة اسرائيل على معظم اراضي فلسطين (اوسع من التقسيم) بإقامة أوثق العلاقات الديبلوماسية والاستراتيجية والاقتصادية مع الدولة المغتصبة.
وبقيت العلاقات الودية والتحالفية على حالها، قبل أن تظهر في اوائل عهد أردوغان في الحكم التركي بوادر تشير الى قيام أكثر من سوء تفاهم بين تركيا واسرائيل، وذلك في أكثر من مناسبة اهمها الاعتداء على الأسطول التركي الذي يحمل مساعدات الى قطاع غزة المحاصر.
لكن كل ذلك لم يمنع أن أساس العلاقات التركية ـ الاسرائيلية، خاصة في المجال الاستراتيجي، لم يهتز أبداً، حتى في ذروة فورة أردوغان في وجه خطاب لبيريز، قاطعه بالخروج والاحتجاج.
ظل الأمر كذلك حتى جاءت الايام الأخيرة حين عملت تركيا على دعم بعض المنظمات الارهابية لتهديد وحدة وتماسك الدولة العربية السورية.
فقد خرج علينا أردوغان قبل ايام قليلة، يدعو للتطبيع الكامل مع اسرائيل، من قبل دول المنطقة كلها، لما في ذلك، برأيه، من منافع عامة للجميع، بمن في ذلك الفلسطينيون.
في مقابل هذه الدعوة وضع أردوغان ثلاثة شروط للدخول في «إنجاز» التطبيع الكامل:
ـ اعتذار اسرائيل العلني عن حادث الاسطول.
ـ التعويض على المتضررين من حادث الاسطول.
ـ رفع الحصار عن قطاع غزة.
ان هذه الشروط الثلاثة التافهة ليست مجرد مقدمة تركية للتطبيع الكامل مع إسرائيل. انها في الحقيقة فرصة امام الاحتلال الإسرائيلي لتصفية قضية فلسطين، واعتبارها غير قائمة من الاساس، بالنسبة لتركيا والعرب وحتى الفلسطينيين.
لكن لنعترف ان هذا الممتلئ بأحلام استعادة الامبراطورية العثمانية من حطامها، ما كان يجرؤ على مثل هذه الدعوة الوقحة، لولا احساسه بأن معظم الانظمة العربية، اصبحت في جو التطبيع الكامل المسبق مع الكيان الصهيوني واحتلاله، حتى من غير تنفيذ هذه الشروط التافهة، التي تأتي من خارج القضية الفلسطينية بكل مراحلها.
صحيفة السفير اللبنانية