الدفاتر

 

“سليمان…” هكذا دون فائض الكنية، هو من طبع الأعمال الكاملة لدستويفسكي، في دار النشر خاصته “ابن رشد” في بيروت.

بدأ المشروع في بيروت وانتهى في تونس. لقد مرت الدبابات الإسرئيلية عام 1982 فوق الكتب، وفوق دار النشر. وكان على سليمان أن يبدأ في تونس من الصفر.

انتهى المجلد الأخير من الاعمال الكاملة لدستويفسكي من الطباعة، وحضّر سليمان ومساعدوه الكميات اللازمة لكل بلد، ولكن الحرب في العراق امتدت إلى الكويت. توقفت الكمية الأكبر عن الشحن إلى العراق 3000 نسخة. فجأة انتقل سليمان من وظيفة الناشرالى شخصية المقامر…صار بطلا للكتاب بدلا من ناشره.

أما الخسارة الكبرى فكانت، عندما تبين أنه مصاب بسرطان الرئة، ثم الدماغ، ثم… الوجود. وفي آخر أيام سليمان كنت أزوره في البيت، فيقول لي: أليس لديك، أنت الأسبارطي، أي حلّ لطروادة السرطان؟ وكان يسخر من كل شيء… إلا من مشروع دستويفسكي، الذي لم يوضح لنا، ولا مرة، أسباب تعلقه بهذا الكاتب.

في إحدى الزيارات …كان واضحاً أنه في أيامه الأخيرة، قال لي، هكذا فجأة ، “متى ستكتب روايتنا؟”

أعادتني هذه الجملة إلى العام 1970 حين هرب سليمان من سورية (لأسباب سياسية) حيث كان يقول هذه الجملة التنبؤية : “حياتنا قد تكون رواية، ولكن بلا كاتب”. قلت مازحاً، ودامعاً:  “ينقصني الدفاتر لمسودات الكتابة”. وكنت أشير إلى أكداس الدفاتر التي صممت لطباعة دستويفسكي عليها وبقيت بيضاء. فأخذت مجلدين (دفترين) فقط، وقلت له: ” ستكون أنت أحد شخصيات الرواية التي سأكتبها “. وفجأة طلب مني أن أقرأ له شعراً مما أحب. فاخترت من بين ما أحفظ هذه الأبيات:

غسل اليدين من الدنيا وبهجتها

وقام صلّى صلاة الخالد الفاني

حط العيون على الأشجار وانسربت

من صدره روحه واحمرّ خدان

يا وقت.. يا وقت لا تعصف بأغنيتي

يا وقت لا وقت كي أصطاد ألحاني

الصمت أحياناً يرن مثل قطعة معدن وقعت على رخام المصادفة. أغمض عينيه المبللتين بالدمع، وأغمد سيفه في صدر طاولة الكتابه عنا.

مات سليمان بعد أيام.

حزنّا عليه في صمت ، وهو يوارى في مقبرة شهداء فلسطين كما طلب من أصدقائه الفلسطينيين قائلاً: “…لكي استحق ما كنته بينكم”.

ومضت الأيام… والسنون والحروب. وعدت من تونس الى دمشق،ىوفي لحظة ذاكرة ،لاتخون من نحبهم ،استحضرت كل ما مرّ بنا. رأيت سليمان ، وجها مبتسما ، نضرا ، بهيا ، يقول لي : “لديك الدفاتر… أين الرواية؟”

لم أخذله…

كتبتها،وطبعتها ، بالعنوان الذي اتفقنا عليه “الى الابد و…يوم” ونالت جائزة أولى…

ولكنه خذلني…

لم يقرأها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى