الدولة الأسعد في العالم
منذ العام 2012، وتحت رعايةٍ أُممية، خُصِّص للسعادة يومٌ يُحتفل به على المستوى العالمي. وهكذا، أصبحت السعادة المؤشّر الإيجابي الوحيد الذي تُقاس عليه الحالة الشعورية لمختلف شعوب المعمورة. فمَن هي الدولة التي تحقّق أكبر سعادة لمواطنيها؟ هذا ما تُحقّق فيه الجمعية الأممية كلّ عام لتفصح في 20 آذار (مارس) عن أسماء الدول الأكثر سعادة، وكذلك الأكثر تعاسة في العالم.
في عالمنا اليوم، الذي تسوده كلّ أشكال العنف والاضطهاد الجسدي والروحي، ناهيك بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية، التي يعرفها العديد من شعوب العالم، هل يمكن أن نتحدّث حقّاً عن السعادة؟ وهل الدول التي اجتاحت أعلى مراتب السعادة يمكن أن يكون مواطنوها سعداء حقّاً؟
في 28 حزيران (يونيو) 2012، على هامش فعاليات الدورة السادسة والستّين للجمعية العامّة للأمم المتّحدة، وبموافقة 156 دولة، تقرّر اعتماد يوم 20 آذار (مارس)، يوماً عالمياً للسعادة، تحتفل به سائر دول العالم. تحت شعار˸ ” السعادة و رفاهية المجتمع والنموذج الاقتصادي الحديث”، يحتفل بهذا اليوم دولياً، بهدف الاعتراف بأهمّية السعي للسعادة، من خلال تحديد أطر السياسة العامّة، لتحقيق التنمية المُستدامة والقضاء على الفقر وتوفير الرفاهية، لمختلف شعوب العالم. وبهذا الشأن، صرّح الأمين العام الأممي بان كي مون أنّ˸ “العالم بحاجة إلى نموذج اقتصادي جديد يحقّق التكافؤ بين دعائم الاقتصاد الثلاث˸ التنمية المُستدامة والرفاهية المادية والاجتماعية وسلامة الفرد والبيئة”.
قد تبدو أهداف إحياء يوم عالمي للسعادة معروفة، غير أنّ الدوافع الحقيقية للجمعية الأممية في اعتماد هذا اليوم لا تزال غامضة وغير مصرّح بها. فإذا رجعنا سنة إلى الوراء، أي قبل 2012، وجدناها سنة عدم الاستقرار والمآسي للعديد من دول العالم . ففيها انتفضت شعوب عددٍ من الدول العربية، في ما سُمّي من بعد بالربيع العربي، واضطُهدت الأقلّيات المسلمة، أعنف اضطهاد، في برمينيا وإفريقيا الوسطى، وازداد الوضع سوءاً في العراق وأفغانستان و… إلخ. فهل خُصِّص يوم دولي للسعادة نتيجة كثرة الأحزان والمآسي في العالم؟ على ما يبدو، أصبحت السعادة أكثر من مسعى يطمح إلى تحقيقه الكثير من الأشخاص، بل أضحت بمثابة الحلم الذي يصعب الوصول إليه، عند الكثيرين ممّن كثُرت مآسيهم.
هؤلاء هُم الأسعد في العالم
في نسخته الرابعة، كشف تقرير الأمم المتّحدة هذا العام، أنّ الدنمارك أكثر دول العالم سعادة، تتبعها النرويج فسويسرا، لتليها هولندا ومن بعدها السويد. أمّا المرتبة السادسة فعادت لكندا ثمّ فنلندا والنمسا تليها أيسلندا فأستراليا. في حين تراجعت مرتبة الولايات المتّحدة، لأسعد الدول في العالم، لتحلّ في المركز 17 ، بعد أن كانت تحتلّ المرتبة العاشرة في العام الماضي. أمّا بريطانيا فاكتفت بالمركز 22 فيما غابت فرنسا وألمانيا عن لائحة العشرين دولة الأكثر سعادة، حيث عادت المرتبة 25 لفرنسا و 26 لألمانيا.
عربياً، تصدّرت الإمارات المركز الأوّل، وذلك بحصولها على المرتبة 28 في قائمة الدول الأكثر سعادة في العالم. وللإشارة، فإنّ الإمارات كانت قد استحدثت وزارةً للسعادة، مهمّتها السعي نحو تحقيق السعادة والإيجابية في العمل وفي الحياة اليومية. خليجياً، جاءت السعودية الثانية عربياً، لتحتلّ بذلك المرتبة 34 عالمياً، تليها قطر التي حصدت المرتبة 36 عالمياً. أمّا المرتبة الرابعة عربياً فعادت للجزائر-38 عالمياً- التي احتلّت المرتبة الأولى في المغرب العربي وفي كلّ إفريقيا.
فيما يخصّ المعايير التي اتُّخذت لقياس مؤشّر السعادة، أشار التقرير الأُممي إلى أنّ العوامل المجتمعية، هي الأكثر أهمّية بالنسبة إلى السعادة، مثل قوّة الدعم المجتمعي ومستوى التعليم والصحّة و التنوّع البيئي والثقافي والمستوى المعيشي، موضحاً في السياق نفسه، أنّ أهمّ مؤشّر للسعادة هو تمتّع الأفراد بحرّية الرأي والتعبير من دون أيّ ضغوط أو ممارسات تعسّفية تَحدُّ من نشاطهم الفكري و السياسي. أضِف إلى ذلك، حضور المجتمع المدني بقوّة وغياب أو انخفاض معدّل الفساد والفقر في المجتمع. التقرير الأُممي، لهذا العام، أكّد أيضاً أنّ الدول يتمّ تصنيفها في المراكز الأولى أو الأخيرة، من حيث انتشار السعادة فيها، وبحسب هناء المواطنين ورفاهيّتهم الشخصية. وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي˸ إذا كان بالإمكان قياس معيار الرفاهية بالاعتماد على الجانب المادي فكيف لنا أن نقيس الهناء باعتباره إحساساً ذاتيّاً غير ملموس لا يعلمه إلّا مَن يشعر به؟ وهل الرفاهية تؤدّي فعلاً إلى السعادة؟
لماذا الدنمارك أسعد بلد في العالم؟
عن سبب سعادة الدنماركيّين، يقول مدير معهد بحوث السعادة مايك وينغ ˸ ” هناك مستوى عالٍ من الثقة بين الدنماركيين، ليس بين المقرّبين فقط، بل بين الغرباء أيضاً”. و يواصل مايك وينغ تفسيره لسرّ سعادة الشعب الدنماركي، لشعوره بالأمان في بلده فيقول ˸ “حين يفقد الشخص عمله بإمكانه الحصول على دعم الدولة له. الدنمارك ليس أغنى بلد في العالم بيد أنّ الأمور تسير جيّداً”.
الأمان هو إذاً سرّ سعادة الدنماركيّين ، كيف لا وهو من المعايير الرئيسية في الدول التي اعتُبرت الأسعد في سجلّ منظّمة الأمم المتّحدة؟! للإشارة، فإنّ الدنماركيّين من بين الذين يدفعون أعلى الضرائب في العالم ومع هذا، لم تُسجَّل أيّ احتجاجات أو محاولات لتغيير هذا الوضع من قِبل المواطنين الذين أبدوا ارتياحهم وقبولهم لسياسة بلدهم، الذي يحقّق لهم مجّانية التعليم والصحّة وحتّى الترفيه والرياضة. الشعب الدنماركي، الذي لا يتجاوز عدد سكّانه 6 ملايين نسمة، يُعدّ إذاً من أسعد شعوب العالم، ولعلّ ذلك يعود إلى اجتماع أسباب عدّة منها˸ انخفاض مستوى البطالة وانعدام الفساد، وإن وجد، فهو ضئيل جدّاً، أضف إلى ذلك مجّانية الصحّة والتعليم وحتّى الترفيه. وعلى الرغم من استفتاءات عدّة حول إمكانية تخفيض الضرائب المرتفعة جدّاً، إلّا أنّ الدنماركيين رفضوا الفكرة، معلّلين ذلك بأنّه الثمن الذي يجب أن يدفعوه للشعور بالكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تحقّق لهم الراحة والهناء.
تعدّدت الأقوال ومفهوم السعادة واحد
تعرّض العديد من الفلاسفة والمفكّرين، منذ أقدم العصور، إلى مفهوم السعادة، ولعلّ من أبرزهم أرسطو، الملقّب بالمعلّم الأول، الذي تناول هذا المفهوم في كتاباته الفلسفية بالدراسة والتحليل، حيث انتهى إلى أنّ السعادة هي هدف البشرية الحقيقي. أكثر من ذلك، فهو يعتبرها هِبة من الله يحصل عليها الإنسان عندما يسير في طريق الفضيلة ويعمل خيراً. وفي نقاط ثلاث، لخّص تولستوي مفهوم السعادة قائلاً˸ ” السعادة أن يكون لديك ثلاثة أشياء˸ شيء تعمله وشيء تحبّه وشيء تطمح إليه”. سقراط من جهته يرى أن السعادة هي اللذة من دون ندم، وهي تتحقّق في السير في طريق الفضيلة. وفي ذات الاتّجاه، يلخّص أفلاطون السعادة في سلامة النفس وليس في سلامة الجسد، وهي في فضائل الحكمة و الشجاعة و العفّة و العدل. ومن دون اشتراط عنصر الفضيلة لتحقيق السعادة، أبدى غاندي نظرته الشخصية حول هذا المفهوم قائلاً˸ “إنّ السعادة تتحّق عندما يتوافق فكرك وقولك وفعلك”.
خلاصة لكلّ ما ورد ذكره من مفاهيم عن السعادة، نستشف أنّ صياغة هذه المفاهيم قد تعدّدت أشكالها لكنّ جوهرها ومضمونها واحد. الشيء الأكيد أنّ السعادة ليست شيئاً ملموساً وإنّما هي إحساس وشعور مميّز وممتع يطبع الحالة النفسية لكلّ فرد ولا يدركه إلّا الشخص الذي يحسّ به. هذا الشعور يُكسِب الإنسان راحة وطمأنينة وهدوءاً نتيجة حدثٍ سار أو وضع مريح وهنيء ثابت غير مضطرب. لهذا الأمر تُعتبر السعادة مطلب الجميع وهدف البشرية الحقيقي كما قال أرسطو. فمَن مِنّا لا يريد أن يكون سعيداً في حياته يتمتّع براحة البال والطمأنينة التي تشعره بالبهجة والهناء؟ هذا هو المسعى الذي يصبو إليه كلّ الأشخاص في أصقاع العالم كلّه مهما اختلفت مشاربهم وانتماءاتهم. وتبقى كيفيّة تحقيق السعادة هي التي تختلف من شخص لآخر. هناك مَن يعتقد أنّ السعي وراء المال والجاه هو مصدر سعادته بينما يعتبره آخر مصدراً للمشكلات، وقد يكون بذلك سبباً في تعاسته فيفضّل الحياة البسيطة الهادئة؛ وهذه فلسفة حياة قليلون هُم الأشخاص الذين يؤمنون بها، شأنهم في ذلك شأن الأشخاص الذين لا يسعدون أبداً بما لديهم وينظرون فقط إلى مكاسب الآخرين. فهم يعتقدون أنّ الأشخاص الأكثر سعادة هُم الأكثر ثراءً وغنىً وكسباً لمادّيات الحياة. هذا ما لا ينطبق دائماً على أرض الواقع. فكم من غنيّ ضاقت به الدنيا فانتحر، وكم من فقير رضي بقضائه وقدره فعاش سعيداً مرتاح البال. سعادة يُحسد عليها، لأنّه عرف كيف يحجز لنفسه مكانة بين مَن هُم الأسعد في العالم.
*إعلامية وباحثة دكتوراه – الجزائر
نشرة أفق الالكترونية (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)