«الدولة الإسلامية» باقية من دون تمدّد؟

في مقالة نشرتها دورية «فورين بوليسي» قبل أسبوع، تساءل أحد منظّري المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية ستيفان والت، عما «يمكن فعله في حال انتصار الدولة الإسلامية («داعش»)». وقد أوضح والت في مقالته أن المقصود بـ «الانتصار» لا يتمثل بـ «تمدّد» الدولة خارج مدار سيطرتها وتأثيرها الراهنَيْن، بل بتمكّنها من توطيد دعائم مؤسساتها وأذرع إدارتها المحلية، عبر جمعها الضرائب، ومراقبتها الحدود، وبنائها قواتٍ مسلحة، ودمجها جماعات أهلية في بنية السلطة… وهي أمورٌ يقوم التنظيم ـ الدولة بتنفيذها راهناً.

وقد رأى والت أن الكثير من الأمثلة التاريخية تفيد بتمكّن سلطات «ثورية» أو «راديكالية» من نَيل الاعتراف بـ «تمثيلها» الدول الكائنة تحت سيطرتها، وذلك بقوة الأمر الواقع. هكذا جاء اعتراف الولايات المتحدة بالاتحاد السوفياتي العام 1933، أي بعد 16 عاماً على تبوّء البلاشفة سدّة الحكم. كذلك أتى اعتراف واشنطن بالصين العام 1979، أي بعد تأسيسها بثلاثين عاماً، بعدما كان نظام تايوان في نظر أميركا يمثّل شرعية البلاد «الحقيقية».

وفي معرض إشارته إلى همجية «داعش»، ذكّر الكاتب، بعد إحالته القارئ إلى كتاب تشارلز تيلي المرجعي «الإكراه، رأس المال، والدول الأوروبية»، بأن تَشكُّلَ الدول الحديثة جاء في غالب الأحيان نتيجة نزاعات دموية تخللتها جرائم كبرى. وعدّد على ذلك أمثلة بينها قيام دول القارة الأميركية على حساب وجود سكّانها الأصليين، وتشكُّل بريطانيا العظمى بعد إخضاع ويلز واسكوتلندا، وتأسيس البلاشفة والماويين حكمهم عبر العنف، ونشأة إسرائيل والمملكة العربية السعودية بالاعتماد على القسر والإكراه.

كما أشار إلى تكيّف سلطات «راديكالية» مع النظام الدولي السائد، نتيجة قيام قوىً من داخلها بالضغط لمصلحة إحلال قدرٍ من البراغماتية مكان الأيديولوجيا. هكذا، مثلاً، تحوّل الاتحاد السوفياتي من شعار «الثورة العالمية» إلى «الاشتراكية الوطنية»، وإيران من «تصدير الثورة» إلى الحوار مع «الشيطان الأكبر»…

ماذا لو «انتصرت» «الدولة الإسلامية» إذاً؟ وهل لنا أن نتخيّل تحوّل «داعش» إلى «دولة حقيقية» كما يقول الكاتب، أو بقاءَ «الدولة الإسلامية» ككيانٍ قائمٍ بحكم الأمر الواقع، لسنواتٍ عديدة قادمة؟

يلزُم القول، بداية، إن تنظيم «الدولة» لا يدين ببقائه مسيطراً على مساحات جغرافية واسعة لقوته الذاتية ـ وهي مُعتبرة ـ بقدر ما يدين لتناقض اعتبارات اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحتين السورية والعراقية، حيث أن اختلاف هؤلاء في تقدير الحلول والبدائل، يسمح بإطالة حياة «داعش».

في هذا الإطار، مثلاً، يمكن إدراج إدانة الرئيس التركي أردوغان بطريقة ملتوية لتدخّل قوات التحالف جواً لمصلحة «وحدات حماية الشعب» الكردية في معاركها ضد التنظيم، والتي أسفرت عن سيطرة الأكراد على مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا. وفي الإطار نفسه تمكن قراءة سعي واشنطن لتسليح عشائر «سنية» غرب العراق، مقابل إصرار بغداد على حصر التسليح وإدارة المعارك ضد التنظيم المتطرف بها.

بهذا المعنى، فإن تنظيم «الدولة» يعيش على استمرار الفجوة بين جملة من اللاعبين، الذين من شأن توافقهم أن يقطع الهواءَ عنه حكماً، ويسمح لبدائل له بخوض معارك جدية ضده في المناطق التي يسيطر عليها.

هكذا، فإن «الدولة الإسلامية» تقتات على هواجس أنقرة حيال «حزب العمال الكردستاني»، وعلى رغبتها بدرء شرّ «الجهاديين» وباستخدامهم لمزيدٍ من إنهاك الدولة السورية. وهي تستفيد من انشغال سائر القوى «الإسلامية» المقاتلة عنها، ومن الأولوية التي تعطيها هذه القوى لحربها مع «النظام» السوري، ومن تخبّط الآلة الدعائية القطَرية الساعية إلى تلميع «جبهة النصرة» وبقية خصوم «داعش» على «الساحة الجهادية». كما تُرسمِل على الخطاب التعبوي الطائفي، الذي رُصدت لأجله أموالٌ خليجية غزيرة، ووُظّفت لتسويقه عمائمُ ووسائل إعلام.

و «الدولة الإسلامية» تقوم على استثمار التناقض بين واشنطن وطهران والسباقِ القائم بينهما لاستمالة ما تيسّر من الدولة العراقية المتداعية ومكوّناتها. وهي تلعب في المساحة الفاصلة بين سلطتي «الشيعية السياسية» في بغداد وإدارة الأكراد الذاتية في أربيل. كما تُفيد من رغبة أنقرة والرياض والدوحة بـ «الانتقام» من المؤسسة العراقية الحاكمة لإقصائها حلفاء هذه العواصم من اللعبة السياسية.

لا يمنعُ ذلك كله احتمالَ بقاء «الدولة الإسلامية» لسنوات قادمة، بل على العكس، فاستمرار هذه الفجوات يطيل عمر الدولة «الجهادية»، ويسمح لها باستثمار عامل الزمن لتطويع المجتمعات الخاضعة لها وأدلجة قطاعات منها، وبالتالي تعظيم حجم مواردها البشرية.

والت يرى أن التعامل الأمثل مع «الدولة الإسلامية» في حال استمرارها على قيد الحياة، يتمثّل بسياسة «الاحتواء» التي أثبتت نجاعتها في حالات سابقة، وانتظارِ أن يُحدث ذلك تغييراً جذرياً في سلوك الدولة الوليدة بما يتماشى مع المنظومة الدولية السائدة، أو يجعلها تتآكل تدريجياً حتى تنهار من الداخل.

ليس الكلام هذا غريباً عن نظريات «المدرسة الواقعية» في العلاقات الدولية، حيث سياسات الدول تقوم إما على التحالف لخلق «توازن» في مواجهة اللاعب الأقوى لناحية امتلاك المقدّرات (البشرية، العسكرية، الاقتصادية، التقنية…) أو الأكثر قدرة على التهديد (بسبب الأيديولوجيا المناوئة، أو القرب الجغرافي…) كاحتمال أول، أو على «الالتحاق» بهذا اللاعب درءاً للمخاطر الناشئة عنه أو عن غيره من اللاعبين، كاحتمالٍ ثانٍ. وسياسة «الاحتواء» التي يقترحها والت، عمادُها التحالف بين مجموعة من الدول من أجل موازنة تهديد «الدولة الإسلامية»، بانتظار تحوّلها بنيوياً أو انكسارها من الداخل.

على أن الجديد في هذا الإطار، هو طرح احتمال التسليمِ بوجود «الدولة الإسلامية» كمسألة ممكنة الحدوث. أما الفاجعة، فلا تكتمل إلا إذا أقدم من يسوّق لـ «النصرة» اليوم في فضاء الإعلام، بفعل الأمر نفسه مع «الدولة».

من قال إن الجولاني أحقُّ من البغدادي بحملة تسويقٍ تلفزيونيٍ عندها؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى