«الدولة الدرزية».. بين الوهم والحقيقة

ما إن تلوح أزمة ملتبسة يكون فيها الدروز أو بعضهم طرفاً فيها، حتى يذهب البعض الآخر إلى وضع سيناريوهات تحتمل «الدولة الدرزية». كما تلك التي رأيناها إثر مجزرة قلب لوزة في إدلب ثم استهداف محافظة السويداء. أصحاب هذه السيناريوهات كانوا مشدودين لأغراضها الدعائية من غير التدقيق في إمكانيات إقامة هذه الدولة، ولا في استعدادات مكوّناتها للقيام بالوظيفة المفترضة بموجب هذه السيناريوهات، لا سيما أن الأمر برمّته يفتقد الخلفية التاريخية، حيث المهيمن على الدروز نزعتهم القومية تشدهم إلى ذلك جذورهم التنوخية العربية.

لم يسجل التاريخ وجود كيان خاص بالدروز، بل اجتماع منخرط بشدة في قضايا وهموم الأمة منذ استيطان أجدادهم الأوائل الساحل اللبناني أيام العباسيين وحتى العصر المملوكي، حيث كانت الوظيفة العسكرية هي أساس هذا الوجود للدفاع عن الساحل اللبناني في وجه غزوات البيزنطيين ثم الصليبيين فالمغول، وبالتالي جاء ولاء أمراء الدروز للدول التي تعاقبت على حكم المنطقة من عباسية إلى فاطمية وصولاً للدولة العثمانية. والحالتان اللتان جرى فيهما كسر هذا الولاء وقعتا خلال إمارة فخر الدين المعني الثاني، ثم بعدها بقرون جراء الانخراط في «الثورة العربية الكبرى» بعدما ضاق دروز سوريا بوجه خاص بظلم الأتراك. ومن المهم الإشارة إلى أن دولة فخر الدين لم تكن قط درزية، كما لم تكن لبنانية كما تصور كتب التاريخ المدرسة بل مشرقية الهوية، سواء في رقعتها الجغرافية ـ وقد اشتملت على مساحة واسعة من بلاد الشام ـ أو في تكوينها الديموغرافي حيث ضمت طوائف شتى إسلامية أو مسيحية تشكل منها جيشها ومؤسساتها المدنية على حد سواء.

الدولة الوحيدة التي عرفها التاريخ خاصة بالدروز جاء بها الانتداب الفرنسي لسوريا بالقسر (دولة جبل الدروز) العام 1921، ومن ضمن لعبة تقسيمية مفروضة جرى فيها تجزئة سوريا إلى خمس دويلات ثم لاحقا إلى ثلاث. وهذه الدولة الدرزية كانت محل رفض وريبة قطاع واسع من الدروز برغم المغريات والرشى التي بذلتها فرنسا. يقول سلطان الأطرش بهذا الصدد في مذكراته: «تزايد نشاط أنصارنا في سائر أنحاء الجبل، وأعلنا في كل مناسبة استنكارنا لهذا الاستقلال المحلي وتجزئة بقية أرجاء الوطن.. ما أقلق السلطة الفرنسية وجعلها تضغط على أعوانها ليثيروا الرأي العام ضدنا». وبعد ذلك، ومع اندلاع الثورة السورية الكبرى، جاء مما جاء في بيانها الذي خطه سلطان: «الى السلاح أيها الوطنيون. إن حربنا هي حرب مقدسة ومطالبنا هي: 1ـ وحدة البلاد السورية ساحلها وداخلها والاعتراف بدولة سورية عربية واحدة مستقلة استقلالاً تاماً» وبالفعل، وعلى يد هذه الثورة التي كان معظم جهدها الحربي على كاهل «جبل العرب»، تقهقر مشروع الدويلات الطائفية.

عاد الحديث عن «الدولة الدرزية» و «الدولة العلوية» العام 1957 في إطار بروباغندا مركبة غايتها استثارة غرائز الشارع ضد «حلف بغداد» باعتبارها الوصفة الناجعة في مجتمع تسوقه الغرائز الطائفية. جاء هذا لمجرد ضلوع شخصيات درزية وعلوية في انقلاب مسلح آنذاك غايته تحويل سوريا عن تحالفها مع مصر تمهيداً لضمها إلى حلف بغداد. وكان من أبرز الأسماء الدرزية «الأمير» حسن، ومن الأسماء العلوية غسان جديد ومحمد معروف وحامد المنصور، زعيم عشيرة المتاورة في مصياف. واستعرت التهمة باعتبار المذكورين من «أقليات» طائفية، من غير الوقوف على هويتهم السياسية، حيث كان العلويون منهم من أقطاب «الحزب السوري القومي»، فيما الأطرش كان مناصراً له. وهذا وحده كاف لبيان نياتهم غير التقسيمية، فكيف وهم جزء من مجموعة ضمت العديد من الشخصيات السورية، مشتملة عسكرين وسياسين وبرلمانيين من مدن عدة، منهم على سبيل المثال منير العجلاني وفيصل العسلي وسامي كبارة من دمشق، وميخائيل اليان وسامي الحكيم من حلب، وصلاح الشيشكلي من حماه، وفيض وعدنان أتاسي من حمص (الأخير ابن هاشم الأتاسي رئيس سوريا الأسبق). والحقيقة أن تهمة الدولة الدرزية أو العلوية التي طفت على السطح آنذاك كان لها وظيفة إعلامية نفسية كما أسلفنا، اخترعها ثعلب السياسة السورية أكرم الحوراني. ويا لها من مفارقة أن يرث اليساريون والقوميون في ما بعد من فرنسا لعبة الشد على الوتر الطائفي. ألم تكن هذه من ألاعيب عبد الحليم خدام في لبنان وقد سمعه كثيرون وهو يقول: «أسانسور الطوائف أسرع» لتفسير بعض الممارسات السورية في لبنان؟ ومن قبيل العجائب أن يكتشف المدقق أن هذا السلاح استخدم لغايات غير نبيلة، منها استبعاد شوكت شقير، القومي العربي، من رئاسة الأركان على أبواب معركة السويس، بوصفه «درزياً لبنانياً غير موثوق»، وهي البروباغندا التي أطلقها عبد الحميد السراج ومعه شيوعيون للأسف، برغم التاريخ الوطني المشرف للرجل، فيما الخلفية الحقيقية كانت أنه حال دون تدخل العسكر في السياسة، فرأت فيه الأطراف كما أورد باتريك سيل «عقبةً كأداء في طريق مطامحهم في فترة النزاع الشرس».

وقد انطلقت السيناريوهات التي تحدثت عن مخطط اسرائيلي لإقامة كيان درزي على خلفية كتاب «خنجر اسرائيل» للصحافي الهندي كارانجيا العام 1957 وهو عبارة عن وثيقة تتحدث عن إحاطة اسرائيل بدول طائفية متناحرة على ان يكون سياج حدودها الشمالية «دولة درزية»، ولقد انطلق الإسرائيليون من تجربتهم مع دروز فلسطين التي سهل عليها تصيدهم مستغلة جهلهم، واضطهاد محيطهم «السني» لهم. غير أن اسرائيل أدركت أن إمكانية تعميم تجربتها على باقي دروز سوريا ولبنان لتأطيرهم في دولة حامية لحدودها مسألة صعبة بالنظر للتفاوتات في المستوى التعليمي والثقافي، وفي الوعي الذي شكلته الأحزاب القومية واليسارية على مدى ثمانين عاماً، حيث وجدت في الأوساط الدرزية أرضاً خصبة لنشاطها، هذا فضلاً عن الذاكرة التاريخية الثورية ـ ولا سيما في جبل العرب ـ الحافلة بالنضال والثورات. بينما كان دروز فلسطين في بيئة سياسية مختلفة تماماً. وقد لمست اسرائيل بؤس تفكيرها في تسخير الدروز غير الفلسطينيين لمخططاتها من تجربتها مع نظرائهم في الجولان الذين رفضوا الجنسية الإسرائيلية، وهم الآن يشكلون رأس الحربة في مقاومة احتلالها. هذا إلى جانب رياح التغيير التي أخذت تلفح دروز فلسطين والذي تبدى في انتعاش الوعي القومي لديهم وفي اعتكاف أعداد غير قليلة منهم عن الخدمة الإلزامية في جيش العدو. بالنظر لما سبق، ولاعتبارات جغرافية لا مجال لشرحها، تدرك اسرائيل أن مثل هذا الكيان الدرزي لا يمكن إلا أن يكون عالة عليها. كما يدرك وليد جنبلاط أن ضم دروز جبل العرب إلى زعامته لا يشكل إضافةً لها، بقدر ما يشكل عبئاً ثقيلاً عليها، بالنظر للتفوق العددي للجبل، مع وجود زعامات تاريخية له لا تقبل بالزعامة الجنبلاطية منافساً أو شريكاً لها. غير أن مناكفة أي قيادة سياسية درزية عبر قصفها بتهمة «الدولة الدرزية» أسلوب نمطي يدركه الإسرائيلي، وكثيرا ما يستدرج الآخرين إليه كما فعل رئيس كيانهم ريئوفين ريفلين مؤخراً، عندما أبدى «قلقه» على دروز سوريا، لتنطلق بعدها الألسن والأقلام من المحسوبين على المقاومة هذه المرة، زاعمة وجود أيد جنبلاطية وإسرائيلية تعبث في محافظة السويداء، وواضعة بكل ثقة! سيناريو لدولة درزية تمتد من جبل العرب إلى الشوف، من دون النظر إلى ثمن هذا الضجيج وإساءته المعنوية التي تلحق بطائفة وطنية عروبية، وتأجيج عدم الثقة التي تصبح مرتعاً لألف شيطان!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى