الدولة السورية في مئة عام
تم رفع العلم العربي في دمشق مساء الـ 30 من أيلول/ سبتمبر عام 1918. بين هذا التاريخ ويوم 8 آذار/ مارس عام 1920، عندما أعلن «المؤتمر السوري العام» الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على «المملكة السورية العربية»، تشكلت نواة الدولة السورية الناشئة مع حكومة مؤقتة برئاسة علي رضا الركابي. عندما انعقد «المؤتمر السوري العام»، كان هناك مندوبون عن سوريا الحالية، وعن لبنان والأردن وفلسطين. صدر عن المؤتمر «قانون أساسي»، كان بمثابة الدستور السوري الأول. كان هناك في الإعلان حدود لدولة تمتد من بيروت حتى الموصل، ومن ماردين حتى العقبة.
سقطت الدولة السورية مع معركة ميسلون في الـ 24 من تموز/ يوليو عام 1920، ودخول الجنرال الفرنسي غورو دمشق في اليوم التالي. أعلن الفرنسيون قيام «دولة لبنان الكبير» في الأول من أيلول/ سبتمبر. وفي الـ 11 من نيسان/ أبريل عام 1921، تم تأسيس «إمارة شرق الأردن»، وفي الـ 11 من أيلول/ سبتمبر عام 1922، وافقت عصبة الأمم على الانتداب البريطاني على فلسطين، وفقاً لنص وعد بلفور. شرعت فرنسا في تقسيم سوريا إلى أربع دول: دمشق ــــ حلب ــــ دولة العلويين ــــ دولة جبل الدروز. في معاهدة سيفر (آب/ أغسطس عام 1920)، كان خط الحدود السورية مع تركيا يمتد من طرطوس حتى ماردين، نزولاً إلى جزيرة ابن عمر عبر دجلة جنوباً. في معاهدة لوزان (تموز/ يوليو عام 1923) تخلت فرنسا، وهذا ليس من صلاحيات الدولة المنتدبة حسب ميثاق عصبة الأمم، ووفقاً للمادة 4 من ميثاق الانتداب: «دولة الانتداب مسؤولة عن عدم التنازل أو التأجير بأي شكل لقطعة من أراضي سوريا ولبنان، التي وضعت تحت إدارتها لأي دولة أجنبية»، عن خط ماردين ــــ ماردين ــــ جزيرة ابن عمر، حتى الحدود السورية الحالية، بما فيها لواء إسكندرون، الذي تخلت عنه فرنسا لتركيا في فترة 1937-1939، من أجل ضمان عدم انضمام تركيا للألمان في الحرب العالمية الثانية، التي كانت غيومها تتجمع. في مؤتمر سان ريمو في الـ 26 من نيسان/ أبريل عام 1920، لتحديد توزيع مناطق الانتداب بين فرنسا وبريطانيا، الذي صادقت بموجب اتفاقاته «عصبة الأمم» على صكوك الانتدابات، كان هناك تشميل للبنان الحالي في سوريا، وهو ما لم تلتزم به فرنسا في الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1920 عند إعلان «دولة لبنان الكبير».
عند السوريين، هناك شعور كان طاغياً عند أكثرهم لمدة قرن من الزمن، بأن هذا القميص الذي جرى لبسه في الـ 8 من آذار/ مارس عام 1920، قد تم تمزيقه. كانت الخياطة لهذا القميص خلال سنة وخمسة أشهر، وفقاً لتصميم هو أقرب إلى ما رسمه أنطون سعادة لاحقاً في الثلاثينيات. كان الطموح وفقاً لمراسلات الشريف الحسين بن علي، والد فيصل، مع البريطاني مكماهون، هو دولة عربية تمتد من جبال الأناضول حتى عدن، ومن جبال زاغروس عند الحدود الفارسية ــــ العربية، حتى سيناء وشرق البحر الأبيض المتوسط. مع العروبة التي سادت سوريا، وما زالت، هناك شعور بأن قميص الـ 8 من آذار/ مارس عام 1920 كان ضيقاً. كان التمزيق للقميص السوري الذي مارسته فرنسا في العشرينيات، قد أعيد رتق بعض ممزقاته مع معاهدة عام 1936، لمّا أعيد تجميع (دمشق ــــ حلب ــــ جبل العرب ــــ الساحل)، في دولة اعترفت فرنسا بها، بما فيها لواء إسكندرون. عند تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945، وكانت الدولة السورية من مؤسسيها، قدّم المندوب السوري خريطة توضع مع أوراق العضوية السورية في المنظمة، تتضمن لواء إسكندرون، وهو بالعرف الدولي، يعني أنها منطقة نزاع مع تركيا، التي قدمت خريطة تتضمن اللواء أيضاً. كانت مزارع شبعا ضمن خريطة سوريا المقدمة للمنظمة الدولية، ولم تكن كذلك في الخريطة اللبنانية المقدمة.
اللافت للنظر هنا، أن يكون «القوميون السوريون» أضعف من الأحزاب العروبية في سوريا ما بعد الجلاء الفرنسي يوم الـ 17 من نيسان/ أبريل عام 1946: كانت «العروبة» أقوى تيار سياسي سوري خلال قرن من الزمن، وما زال. خسر الشيوعيون قوتهم في الشارع السوري في فترة 1956-1958، لمّا وقفوا ضد وحدة 22 شباط/ فبراير عام 1958 السورية ــــ المصرية. كان الـ 22 من شباط/ فبراير عام 1958هو المحاولة السورية الثانية للبس قميص أوسع، بعدما منع انقلاب أديب الشيشكلي في الـ 19 من كانون الأول/ ديسمبر عام 1949، محاولة البرلمان السوري المنتخب قبل شهر (سمي بالجمعية التأسيسية حتى إنجازه دستور 5 أيلول/ سبتمبر عام 1950) إقرار الوحدة مع العراق، تحت سقف العرش الهاشمي، وقد دعمت القاهرة ــــ الرياض ــــ باريس انقلاب الشيشكلي. كان التأييد لانقلاب الـ 8 من آذار/ مارس عام 1963 عند شرائح واسعة من المجتمع السوري، بسبب إعلان منفذيه الناصريين والبعثيين نيتهم تجاوز انفصال الـ 28 من أيلول/ سبتمبر عام 1961، وهو ما أصبح نسياً منسياً، بعد انفضاض التحالف البعثي ــــ الناصري، إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الناصريون، بدعم من القاهرة في الـ 18 من تموز/ يوليو عام 1963، وانفراد البعثيين بالسلطة. يمكن الاستدلال أيضاً على قوة العروبة في المجتمع السوري خلال قرن من الزمن، من خلال التفاعل الأقوى للسوريين بالقياس إلى العرب الآخرين، مع قضية فلسطين منذ عام 1948، ومن خلال قياس وضع الفلسطينيين في سوريا، بالمقارنة مع البلدان العربية الأخرى، كانت حساسية فلسطين عند السوريين هي التي جعلت المفاوض السوري أفضل وأكفأ من المفاوضين المصريين واللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين في أثناء جولات المفاوضات العربية ــــ الإسرائيلية خلال فترة 1974-2008.
داخلياً، احتلت التيارات الثلاثة: العروبي ــــ الإسلامي ــــ الماركسي، صدارة المشهد السياسي السوري منذ يوم الـ 8 من آذار/ مارس عام 1963، مع اختفاء وموت التيار الليبرالي، الذي كان متصدراً لمشهد 1946-1958مع حزبي «الشعب» و«الوطني». كان هذا بسبب بنية اقتصادية ــــ اجتماعية جديدة جاءت مع الإصلاح الزراعي في أيلول/ سبتمبر عام 1958، ومع تأميمات الصناعة والبنوك في تموز/ يوليو عام 1961، وهو ما أكمله البعثيون بعد يوم 8 آذار/ مارس عام 1963. لم تنجح عملية إحياء التيار الليبرالي في فترة 2001-2011، من خلال ماركسيين متحولين عن الماركسية، عبر «لجان إحياء المجتمع المدني» وحزب «الشعب الديموقراطي». الصناعيون والتجار ورجال الأعمال، ولدوا من رحم السلطة السورية في فترة 1974-2004، ولا يرون مصلحة في الليبرالية السياسية، ما دامت السلطة السورية منذ عام 1991 تقود عملية التحول من «رأسمالية الدولة»، التي نشأت عبر الإصلاح الزراعي والتأميمات، باتجاه نموذج «اقتصاد السوق»، وهم لا يرون مصلحة في أن يكونوا خارج خيمة السلطة السياسية القائمة، كما أثبتت تجربتا أحداث 1979-1982، وأزمة 2011-2018. في هاتين التجربتين، كان هناك انفجارات مجتمعية، أخذت شكل السلاح العنفي المعارض، الذي طغى على المعارضة السلمية بالتجربتين، أتت أساساً في 1979-1982، من شرائح مدنية متضررة من «رأسمالية الدولة»، أولاً ترى مصالحها فيها، وأتت في2011-2018 من بنى ريفية دمر التطور الرأسمالي زراعتها، وخاصة بعد مرسوم زيادة أسعار المازوت والأسمدة الزراعية في أيار/ مايو عام 2008. تلك الشرائح المدنية المتضررة، في حلب وحماة وبلدات محافظة إدلب، ركبت قطار «الإخوان المسلمون» في 1979-1982، فيما في أزمة 2011-2018، أفرز الريف السني «سلفية جهادية»، وهذا يُلمس في مصر، حيث أتت السلفية الجهادية وتركزت في الصعيد، وهو ما يُلاحظ على «الجماعة الإسلامية»، فيما «الإخوان المسلمون»، تنظيم مديني أساساً أو في منطقة ريف الدلتا الأكثر تطوراً من الصعيد.
على الأرجح، كان انفجار الأزمة السورية بدءاً من درعا في الـ 18 من آذار/ مارس عام 2011، تظهيراً لمآلات المجتمع السوري منذ يوم 30 أيلول/ سبتمبر عام 1918: كان الانفجار السوري هو الأقوى بين الانفجارات المجتمعية العربية المتزامنة معه في الدول الجمهورية: التونسية ــــ المصرية ــــ اليمنية ــــ الليبية، من حيث قوة الحطب الداخلي المشتعل، ومن حيث قوة الاستقطابات الداخلية بين تخومات الموالاة ــــ المعارضة ــــ التردد، ومن حيث التربة الخصبة التي لاقتها «القاعدة» و«داعش»، للنمو أكثر من التربتين الأفغانية 1989-1998، والعراقية 2004-2013، ومن حيث الانخراط الإقليمي ــــ الدولي في الأزمة السورية. كانت الطائفية في سوريا أضعف من لبنان 1975-1990 ومن عراق 2003-2008. كان هناك اتجاه قوي للاستعانة بالخارج عند المعارضة والموالاة في الأزمة السورية، وكان اتجاه التسوية هو الأضعف بالقياس الى اتجاه «الحسم» عند طرفي السلطة والمعارضة. ظهرت أزمة كردية من شقوق الأزمة السورية. أصبحت الأزمة السورية بغير يد السوريين، بل بيد مربع موسكو ــــ واشنطن ــــ أنقرة ــــ طهران، وتسويتها ستكون بينهم أو بين بعضهم مع استبعاد البعض الآخر.
صحيفة الأخبار اللبنانية