الدولة ليست ” وكالة من غير بواب”

الدولة، وكما هو معلوم في جميع الأعراف وبلغة القانون، هي هيئة أو شخصية اعتبارية ينبغي أن يحترمها ويجلها الجميع لما تمثله من رمزية تكتسبها من علوية القانون وحده، بالإضافة إلى عقد المواطنة الذي يسري على الجميع دون استثناء. وبناء على ما تقدم فإن مظاهر الازدراء وعدم الاحترام لكل من يمثل الدولة أو يرمز إليها، تعدّ جريمة يعاقب عليها القانون في الديمقراطيات الحقيقية، وذلك لما توحي به من تهديد بالخروج عن سلطة الدولة التي يحق لها وحدها العنف الإيجابي لضمان تطبيق الدستور الذي اعتمدته لنفسها.
المشكلة أن الذهنية السائدة في بقاع كثيرة من العالم العربي لم تتشبع بمفهوم الدولة وفق التعريف المدني والحقوقي المتعارف عليه في الدساتير الحديثة، وظلت الشخصنة هي النزعة التي تطبع كل حديث يتعلق بالدولة.
جملة المراسم المتعلقة بهيبة الدولة هي في نظر العوام، لا تخرج عن مظاهر البهرجة ولا تحيد عن الأبهة التي يحيط بها السلاطين أنفسهم عادة في المخيال الشعبي والسردية التاريخية، لذلك لا يمثل القصر الرئاسي مثلا في عقلية المواطن العربي شيئا سوى أنه عقّار فخم يسكنه الحاكم الغني، وليس رمزا لهيبة الدولة وعلو مقامها.
البدلة الأنيقة والكرسي الوثير والعشاء الرئاسي أو الملكي الفاخر في نشرات الأخبار، ما هي إلا مفردات بالنسبة للمواطن البسيط، تدل على الثراء الفاحش والبذخ، وليس بروتوكولات تعكس رهبة الدولة وعزتها، وسمو منزلتها أمام الضيوف والسفراء والحكام الأجانب.
الوعي المجتمعي السائد في البلدان المتخلفة لا يرى في الشرطي إلا صاحب هراوة تنهال على رأسه، ولا في الفضاءات العامة إلا أمكنة للآخرين ورموزا للتسلط، ولا تعنيه نظافتها أو صيانتها في شيء بل يعتقد أنه من ” الحلال” إفساد وتخريب كل ما تشرف عليه الدولة وتزعم ملكيتها له طالما أن الدولة قد ارتبطت بالقمع والفساد.
كل هذا الازدراء للدولة سببه عوامل عديدة قد تبدو منطقية أثناء شرحها وتحليلها، فالمشرفون على تسيير دواليب الدولة وفرض هيمنتها وقوتها هم في غالبيتهم من الفاسدين والمتسلطين والمنتفعين، لذلك يصبح من الطبيعي أن لا يحترمهم مواطنوهم، ومن العادي أن ينتقم منهم الناس، ولا يمتثلون لأوامرهم.
التراخي في تطبيق الأحكام والقوانين سبب أساسي في تراجع هيبة الدولة، ذلك أن انتشار المحسوبيات والرشاوى والمفاضلات، تجعل القوانين أمرا لا يخص إلا الفقراء وضعاف الحال، أما الميسورون والمقربون من السلطة فهم فوق الأحكام وخارج ميزان العدالة.
الدول التي عاشت ما بات يعرف ب ” الربيع العربي” هي الأكثر عرضة لمعضلة غياب هيبة الدولة وتراجعها، وذلك لأسباب عديدة تبدأ بالفوضى العارمة التي أعقبت هذه المتغيرات، واندساس العصابات في صفو الجماهير الغاضبة، وتنتهي عند الهوامش الهشة للتجارب الديمقراطية الصاعدة كما هو الأمر في تونس، إذ لا بد هنا من التحدث عن ضريبة لا بد منها في بلد عاش التضييق على الحريات طيلة عقود من الزمن.
لا بد من الاعتراف بأن مفهوم الدولة في الذهنية العربية ما زال هلاميا، ويعادل كلمة الحاكم أو السلطة المتمثلة في أشخاص تربطهم بهذا “المواطن ” علاقة شخصية وليس قانونية، فهي مبنية على أساس الحب أو الكراهية، المنفعة أو المضرة، البعد أو القرابة.. وبناء على هذه المعطيات يُنسج مفهوم الدولة في الذهنية العربية، والتي تربطها علاقة مشوشة وملتبسة مع ” رعاياها” أو ” زبائنها” و” دافعي ضرائبها” وليس ” مواطنيها”.
الحل في نظر المراقبين والمحللين، لا يقتضي التطرف يمينا أو يسارا، ولا المزايدة باسم هيبة الدولة أو باسم الدفاع عن الحريات كما يحدث الآن في البرلمانين التونسي والمصري، ففي الأول وصل الأمر بأحد النواب أن طالب بانقلاب عسكري لإنقاذ هيبة الدولة، وفي الثاني طالبت نائب بإقرار ما يعرف بقانون تجريم إهانة رموز الدولة، وطالبت هذه النائب بإنزال أقصى العقوبات على من ” تسول له نفسه” التعرض لمسؤول في الدولة.
وفي هذا الصدد قال النائب في البرلمان المصري هيثم الحريري بأن السبيل الوحيد لمنع أي إهانات لرموز الدولة، هو مزيد من الحرية والشفافية، وتابع قائلا ” كان من الأولى أن يتم التقدم بمشروع قانون حرية تداول المعلومات، بدلا من تجريم إهانة رموز الدولة”.
هيبة الدولة تكون في قلب المنطق التعاقدي الذي يربط الحق بالواجب كثنائية مُهيكلة لرابطة المواطنة. وهي تتحقق عمليا حين تنغرس في وجدان الأفراد والجماعات، وحين ينخرط المجتمع في استبطان ثقافتها ومنطقها، ويستقوي بها في لحظات الضعف والعوز والحاجة. وأكثر من ذلك، حين يقتنع المواطنون بالجدوى من وجودها وبالمنفعة من سياساتها وخدماتها، افتخاراً وتباهياً، لا خوفا وإكراها.