الديكتاتور لا يحكم بعد الثورة بلا قرين سري (سوسن جميل حسن)
سوسن جميل حسن
ما لذة السلطة؟ سؤال يحتمل وجهين، فإما أن يكون صيغة استفهامية تبحث عن أدلة توضح هذا المفهوم، أو صيغة استنكارية تعرض البراهين على أن ما تقدمه السلطة لا يرقى إلى مصاف اللذة وهي ليست جديرة بالتمسك بها. وبما أن اللذة هي خبرة فردية، والسلطة مفهوم يدل على حالة يمكن أن تمارس في شكل إفرادي ويمكن أن تمارس جماعياً، لكنها تخرج بصيغة فردية، فإن السلطة التي يتناولها الكاتب التشيكي لاديسلاف مناتشكو في روايته «ما لذة السلطة» الصادرة عن دار الحوار بترجمة غياث موصلي، هي سلطة فرد كان مناضلاً ثورياً تدرّج في المناصب حتى وصل إلى منصب «الرئيس»، وهذا المنصب يسميه المؤلف «رئيس المكتب» بصيغة عامة، لكنه يملك صلاحيات مطلقة تشي بأنه «رئيس البلاد».
حاضراً «عندما طُردت القوى السياسية المعارضة من مقاعدها».
جنازة رسمية ومراسم وداع غاية في الدقة، مدروسة ومحكمة مسبقاً بحيث تتم الأمور بكرنفالية متقنة حيث يصطف طابور طويل أمام الأبواب البرونزية يستغرق يومين، و «المضحك في الأمر أنه ما دام سيبقى هنا مستلقياً، فإن الجميع سيمثلون الحزن»، فالمرحوم كان يعني بالنسبة الى حاشيته «الاستقرار النسبي» وهو خير من لا شيء. وغداً سيجلس في مكتبه شخص آخر، لكن ماذا سيحصل حين يستلم أحد مكانه من خارج الدائرة المعروفة؟ في كل الأحوال، فإن من سيتسلّم سيطرد الطاقم القديم بطاقم آخر يمنح الميزات نفسها، وسيقترحون خططاً مقبلة لن يحققوها أيضاً، وكلهم مترهلون. فرانك يعرفهم جميعاً، ويتذكرهم «كثوريين صلبين عندما كانت هناك ثورة»، لكن منذ أن أصبحت الثورة «بالوناً، أصبح مظهرهم كالبالون، وهذا الميت أحدهم ومثلهم».
يراقب فرانك ما يدور حوله عن كثب، وهذا المتوفى وفق ادعاء الصحافة إنسان كبير لا يمكن تعويضه، يبدو الآن وحيداً، لقد حطم الكثيرين وأسقط الكثيرين، لكنه الآن موجود ولا شيء حوله غير الموت. لقد منحه المرض فرصة أن يموت في الوقت المناسب، فموته مخرج سياسي مناسب و «أفضل من الطرد السياسي الذي يفضح الكثير». ساعة البرج القريب تدق، وكلما دقت لتعلن وقتاً معيناً تصل الشخصيات المعزية وفق الترتيب، ما يمنح المشهد صرامة إضافية.
«لقد أصبح كل شيء من الماضي، لقد تغير الزمن»، أما حياته فانتهت قبل البارحة، يستطيع فرانك أن يحدد بدقة ساعة موته الرسمي، فقد «عُمم في أحد الأيام إلى كل الصحف والمجلات أمر سري على ورق ملون يحظر كتابة اسمه ونشر صوره. في ذلك اليوم مات»، وطالما «لم يعد موجوداً في الصحافة»، فقد انتهى. ولكن من يملك إدارة هذه السلطة، الصحافة؟ هناك في الأنظمة الديكتاتورية، حيث يقبع على رأس الهرم شخص يمتلك كل الصلاحيات، يقبع قرينه، أو نظيره، أو نسخته في الظل، رجل يقبع على قمة نظام أمني بامتياز، إنه: «جالوفيتش» الرجل الحديد الصارم الزاهد بشكليات السلطة، الذي يراقب ويسجل ويعيش تحت رحمة هاجس أعداء الثورة، يعتمد على رجال يقبضون على رقاب الناس بقبضة من حديد، مصابين بداء الشك القاتل. كان جالوفيتش دائماً يعمل خلف الكواليس وفي السر، لكن المتوفى لم يفعل شيئاً، فلو قام بإبعاد جالوفيتش لكان استطاع تأكيد الخط الجديد «الذي كان الجميع بانتظاره، وترقبه، والذي سيحصل مهما طال الزمن». المتوفى لم يطرد الرجل المكروه من الجميع، وبهذا الصمت هيأ نفسه للسقوط. لقد دأب المتوفى طوال حكمه على تجميع السلطات في يده، ولكن كان هناك دائماً من يعترض طريقه، جالوفيتش لم يكن يخاف أحداً ولا شيئاً، وهو قد جمع المعلومات عن أفعال المتوفى، وكان يعرف كل شيء. أما المتوفى فقد «كان يحتاج إلى الكثير من البريق، والكثير من المدح».
قهر الناس
جالوفيتش، وتحت ستار حماية الثورة من الأعداء والمخربين، «حطم وقهر الناس، أي شبهة بأحد كانت كافية لجالوفيتش أن تكون برهاناً»، وهو كان يعرف كل شيء عن المتوفى، فكيف أمكنه أن يبقى طوال هذا الوقت في قمة السلطة؟ «لقد كانوا يعرفونه ويعرفون تصرفاته، لذلك تركوه في منصبه وسلطته» يقول السارد: «لقد كان ظاهراً للعلن أن هناك رجلين قويين في الحكم وهما يتصارعان كالديوك، لكن الحقيقة أن هناك ديكاً قوياً واحداً، ربما كان هذا الديك يحتاج إلى الديك الآخر، هل كان ذلك رغبة بتوازن القوى؟».
إن جالوفيتش حطّم عدوه وبذلك وصل إلى قمة سلطته الخاصة، ولكن ألم يقم بتحطيم نفسه؟ هو لا يعرف شيئاً عن هؤلاء الشباب الحديثي العهد، وها هو وحيد بينهم، «لقد ارتكب خطأ حياته بإزاحة ذلك الميت، لن يعزف الشباب على أوتاره ولن يتقيدوا بقوانينه وأخلاقياته، وهم لا يتميزون بيقظته الثورية، وسيعملون وفق قناعاتهم الخاصة». لا يزال يملك بين يديه السلطة الحقيقية بكاملها مع الجهاز اللازم للمراقبة والمتابعة، لكنه بموت ذلك الرجل الذي يقوم بتأبينه بنفسه، انتهت حقبة من الحكم وجالوفيتش ركامها، فهو «كان متخفياً عن العيون وكان ذلك الميت في الواجهة، لكن منذ هذه اللحظة سيكون هو في الواجهة».
صوّر فرانك جالوفيتش وهو يخطب فوق جسد الميت الذي كان سبباً في تحطيمه، وستكون الصفحة الأخيرة في ألبومه عن حياة إنسان وموته. وكان نهاية دور المصور، فالجنازة ستنطلق، وسيكون لها خارجاً مصور آخر، وسيعود كل شيء إلى مكانه.
بتقنية السرد الرجعي التي لا تتقيد بتسلسل زمني، يحكي الكاتب حكايات أشخاص كانوا على علاقة مع الميت في شكل أو في آخر، ليظهر الجانب الخفي الضروري لتمكن السلطة. إنهم الناس، العامة، فالسلطة لا تتحقق بلا ميدان تمارس فيه، على مبدأ المقولة المصرية: يا فرعون من فرعنك؟ يخاطب المتوفى الذي كان صديقه: «متى؟ وأين؟ ولماذا اغتربت عن نفسك؟ لماذا ولأي شيء، ومتى وصلت إلى المعرفة الخاطئة والكاذبة، بأنك أفضل من الجميع، وأنك كل شيء، وأنه في إمكانك أن تتصرف على هواك؟». ومن أجل منح السرد صفة الموضوعية، بما أن المصور كان شاهداً على تاريخ، يقول عن نفسه: «المصور ليس إنساناً، إنه عبارة عن عدسة». ليختتم بجملة أخيرة بعد أن ينهي جالوفيتش كلمته: «في الحقيقة لم يتغير الكثير، أحدهم قد مات، لكن «ماركيتا» بقيت على حالها». وماركيتا هي طليقة الرئيس، التي أخذتها منه تلك الشقراء التي تتهم بأنها كانت سبباً في سقوطه.
رواية جميلة، نحن بحاجة إليها في راهننا العربي، قد تخفف من حمولتنا الثقيلة من الأحزان، جعلتني أستعرض في تاريخنا الحديث كل الزعماء الذين ركبوا الثورة واستولوا على السلطة ومارسوها كسلطة مطلقة، من منهم مات في الوقت المناسب «بالنسبة اليه»؟ لا بد من أنهم قلائل.
صحيفة الحياة اللندنية