نتابع فيما يلي تاريخ المسارات الدستورية في التاريخ السوري الحديث:
8 – الدساتير المؤقتة 1964/1973
بتاريخ 8 آذار/مارس 1963 سيطر حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة حيث دأب خلال العشر سنوات الأولى اللاحقة لتوليه السلطة على إصدار دساتير مؤقتة تصدر دوماً بطريقة فوقية من قبل القيادة القطرية للحزب أو المؤتمر القطري الذي كان ينعقد غالباً بظروف استثنائية بسبب مرحلة الاضطرابات الحزبية – السياسية التي شهدتها البلاد خلال تلك الفترة والتي شهدت إصدار عدة دساتير مؤقتة بذات الطريقة وعلى النحو التالي:
أ: الدستور المؤقت لعام 1964: بتاريخ 25 نيسان / بريل 1964 أصدر رئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة أمين الحافظ المرسوم رقم 991 والذي جاء فيه: “بناءً على الأمر العسكري رقم 1 بتاريخ 8 آذار/مارس 1963 يُعلن الدستور المؤقت للجمهورية العربية السورية المرفق بهذا المرسوم ويُعتبر نافذاً من تاريخ صدوره”.
استمر هذا الدستور المؤقت حتى قيام حركة 23 شباط/ فبراير 1966 والتي أوقفت العمل به وقررت حل المجلس الوطني للثورة بموجب القرار رقم 1 تاريخ 23 شباط/فبراير 1966 الصادر عن القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث الحاكم .
ب: الدستور المؤقت لعام 1969 : بتاريخ 21 آذار/مارس 1969 عُقد المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي لحزب البعث الحاكم وقرر أن “تقوم القيادة السياسية بإصدار دستور مؤقت للنظر خلال شهر من تاريخ انتهاء المؤتمر”، وبناءً عليه أعدت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي دستور مؤقت للبلاد وتم إصداره وتطبيقه بموجب قرار القيادة القطرية رقم 33 تاريخ 1 ايار/مايو 1969 والذي جاء فيه عبارات موجزة نصت حرفياً: “القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي بعد إطلاعها على قرار القيادة القطرية المؤقتة رقم 1 تاريخ 23 شباط /فبراير 1966 قررت إعلان الدستور المؤقت المرفق”.
ت: الدستور المؤقت لعام 1971: صدر هذا الدستور المؤقت بتاريخ 16 شباط/ فبراير 1971 بموجب قرار القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي رقم 39 تاريخ 1 ايار/مايو 1969 والمعدّل بقرار القيادة القطرية المؤقتة رقم 141 تاريخ 16 شباط/ فبراير 1971.
يتضح لنا أنه من خلال هذه الفترة التي استمرت قرابة العشر سنوات تم فيها إصدار ثلاثة دساتير مؤقتة لحكم البلاد لم يتم خلالها مراعاة أية معايير شكلية أو موضوعية لإصدار تلك الدساتير فغاب دور الهيئات التأسيسية ولجان كتابة الدستور، كما لم يتم عرض تلك الدساتير على الشعب لا لمناقشته فيها ولا لاستفتائه عليها.
9 – دستور 1973
أقرت القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث الحاكم تعيين مجلس شعب مؤلف من 173 عضواً وكلفته أن يقوم خلال عامين بإعداد دستور دائم للبلاد وإقراره، إثر ذلك شَكّل المجلس لجنة دستورية برئاسة “فهمي اليوسف” رئيس مجلس الشعب وقتها لإعداد مسودة الدستور الدائم الذي عُرض على المجلس فأقّره ثم عُرض على الاستفتاء العام بتاريخ 12 آذار/مارس 1973، وبات نافذاً من تاريخ 13 آذار/مارس 1973 حيث استمر العمل به لغاية إقرار الدستور الحالي في عام 2012.
10– دستور 2012
إثر الإحتجاجات الشعبية التي عرفتها البلاد في آذار/مارس 2011 أصدر رئيس الجمهورية بتاريخ 15 تشرين الأول/اكتوبر 2011 القرار الجمهوري رقم 33 القاضي بتشكيل اللجنة الوطنية لإعداد مشروع دستور الجمهورية العربية السورية تمهيداً لإقراره وفق القواعد الدستورية وحدد القرار المذكور مدة أربعة أشهر من تاريخ صدوره لكي تنجز اللجنة عملها، وقد تضمن القرار اسماء 29 شخصية من بينهم ثلاث سيدات فقط قبل أن يتقلص العدد إلى 28 نتيجة انسحاب أحد أعضائها فوز تكليفه، وبعد أن أتمت اللجنة صياغة مشروع الدستور الجديد وسلمته لرئيس الجمهورية الذي أصدر المرسوم الرئاسي رقم 85 لعام 2012 القاضي بتحديد يوم الاحد 26 شباط/فبراير 2012 موعداً للاستفتاء على مشروع دستور الجمهورية العربية السورية الجديد، وبعد اجراء عملية الاستفتاء أعلن وزير الداخلية أن نسبة الذين وافقوا على مشروع الدستور الجديد قد بلغت 89,4 بالمئة من عدد المستفتين، وإثر ذلك أصدر رئيس الجمهورية المرسوم رقم 94 لعام 2012 الذي جعل الدستور الجديد نافذاً من تاريخ 27 شباط/ فبراير 2012.
لم تسلم هذه الطريقة من النقد بطبيعة الاحوال سواء لجهة تعيين اللجنة التي صاغت مسودة الدستور أو لجهة غياب معايير التشاركية والشفافية اللازمة لأي عملية دستورية، علماً أن النقد طال أيضاً ظروف وتوقيت كتابة الدستور والاستفتاء عليه. إذ تمت كتابة الدستور وعملية الاستفتاء فيما البلاد تغلي سياسياً وتدوّي الانفجارات في مناطق كثيرة منها وتنتشر الدبابات والمدرعات والجنود في كل مكان وتطغى على أصوات القنابل والقذائف والرشاشات على كل صوت آخر في العديد من المدن والبلدات.
الدين مصدر التشريع
يحظى موضوع علاقة الدين بالتشريع بأهمية خاصة أثناء عملية صياغة الدستور لأن السوابق والممارسات الدولية تؤكد أن الاعتراف بدين ما أو تكريسه مؤسسياً أو منحه امتيازات أو تطبيق شريعة دينية معينة، جميعها قد تترك آثاراً مؤذية على حقوق الأقليات الدينية، أو الخارجين عن هذا الدين أو اللادينيين أو المتدينيين الذين لا يوافقوا على تفسير بعينه لدور الدين في ضبط الحياة العامة والخاصة.
ومن هنا يمكن تقسيم الدساتير السورية لجهة تطرقها لمكانة الدين كمصدر للتشريع إلى ثلاث فئات أساسية:
الدساتير التي لم تتم فيها الإشارة الى علاقة الدين بالتشريع : دستور 1920، دستور 1930، دستور 1958، دستور 1961.
الدساتير التي استخدمت مصطلح أن ( الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع) تطرقت هذه الفئة من الدساتير إلى دور الدين ومرجعيته ضمن مصادر التشريع، فاستخدمت نصاً واحداً تكرر حرفياً في أكثر من دستور وجاء به أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”، وورد هذا في: دستور 1950 المادة 3 الفقرة 2، دستور 1953 المادة 3 الفقرة 2، دستور 1962 المادة 3 الفقرة 2 .
الدساتير التي استخدمت مصطلح أن “لفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع” تطرقت هذه الفئة من الدساتير إلى دور الدين ومرجعيته ضمن مصادر التشريع فاستخدمت نصاً واحداً تكرر حرفياً في أكثر من دستور وجاء به أن “الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع” وورد هذا في: دستور 1964 المادة 3 الفقرة 2، دستور 1969 المادة 3، دستور 1971 المادة 3، دستور 1973 المادة 3 الفقرة 2، دستور 2012 المادة 3 فقرة 2.
وتبدو الفئة الثالثة من الدساتير السورية مراوغة الى حد كبير في هذا المنحى، فإن القول في الفئة الثانية (المصدر الرئيسي للتشريع هذا يعني انه المصدر الأول في الترتيب ويفوق باقي المصادر، وأن على المُشرّع العودة دوماً لأحكام الفقه الإسلامي إن لم يكن لاقتباس الأحكام منها فبلتأكيد لتجنب مخالفتها، بينما القول في الفئة الثالثة أنه “مصدر رئيسي للتشريع” فهذا يعني أنه مصدر ضمن مصادر أخرى يتساوى معها في القيمة دون أن يتقدم أحدها على الآخر، وبالتالي فإن المشرّع في هذه الحالة غير ملزم بالأخذ بأحكام الفقه الاسلامي بل أنه مُخَّير بين الأخذ منها أو تجاوزها، لكن لطالما أن الدستور لم يذكر مصادر اخرى سوى الفقه الاسلامي فانه يُبنى على ذلك أن الفقه الاسلامي وحده سيكون المصدر الرئيسي ذو المرتبة الأعلى ولذلك ينبغي أن يكون التشريع متفقاً مع مبادىء هذا الفقه وإلا عُدَّ مخالفاً للدستور وجاز الطعن فيه لعدم دستوريته.
هنا لابد لنا من الاشارة للنقاش حول هذه المادة اثناء مناقشات المؤتمر السوري عام 1919 ما يعكس الوعي المبكر لاستبعاد المرجعية الدينية كمصدر للتشريع الدستوري، ففي اثناء المؤتمر المُمهد لاعداد مشروع الدستور الأول عام 1920، واثناء النقاشات الخاصة بالمادة ذات الصلة تحديداً بحقوق المرأة كان من أشد المدافعين عن حقوقها رجال الدين الذين لم يسعوا لتكريس الدين في الدستور فقدموا فَهماً مستنيراً للدين وسَعوا لفَصله عن حكم الدستور والتأثير على أحكامه، لكنهم ووجهوا بتيار يسعى لتثبيت المرجعية الدينية.
وتوضح محاضر الجلسات ان الشيخ سعيد مراد قال في إحدى مداخلاته : “لا يوجد في تقاليد الشرق ما يسجل على الأمة جهل نصفها، وإنّا مستعدون في كل فرصة لإزالة هذا الجهل من النساء والرجال معاً، فمسألة المرأة لها مساس بالعلم لان الشرع قرر قبول شهادة المرأة وقبول أخذ الأحاديث عنها وقبولها معلمة وحاكمة في المسائل القانونية، دون الجزائية. المسألة مسألة حق المرأة، فالذي أعطانا حق التشريع في هذا المجلس أعطاها حق الانتخاب أيضاً. مسألة المرأة مساسها الوحيد بمسألة العلم، ويجب أن نعترف أن الله أعطاها من الحقوق ما أعطاكم. فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. وهذه من المسائل الإجتماعية الصرفة التي أفادنا النص القرآني فيها بفوائد جلى لا تنكر”.
لَقي هذا الرأي قبولاً من قبل العديد من أعضاء المؤتمر كالسيد عزت دروزة الذي استشهد خلال المناقشات بما ذكره الشيخ “سعيد مراد” مضيفاً : “إن الشريعة الإسلامية سجلت للمرأة حقاً لا يقل عن حق الرجل، وانها جعلتها فطنة حاكمة ومجتهدة وعالمة ومحدثة وما أشبه ذلك”.
دعم بعض أعضاء المؤتمر هذا الحق من وجهة النظر الإجتماعية لا الدينية، وهو ما عبر عنه السيد دعاس جرجس بقوله : “بتطرقنا إلى هذا الموضوع أي منح المرأة حق الانتخاب نثبت حقاً إجتماعياً تحترمه كل الممالك والدول والطوائف، فلا نريد أن نبقى في حال الرجل الفَلوج فَلجاً موضعياً أي نصفه صحيح والنصف الآخر مُعتل”. وأكد السيد “صبحي الطويل” من اللاذقية ذلك بقوله : “إن المرأة المتعلمة خير من ألف رجل جاهل، يوجد في بعض الجهات المألوفة من الرجال لا يدركون شيئاً، فإمرأة واحدة متعلمة خير منهم، فلماذا نعطيهم حق الانتخاب ونحرم النساء المتعلمات منه”.
في المقابل تمسك أنصار الفكر المحافظ بحجج إجتماعية لا دينية في معارضتهم منح المرأة السورية حق الانتخاب من خلال التذرع بالواقع والعرف الإجتماعي وليس الحكم الديني، وهذا ما عبّر عنه ممثل حماة الشيخ “عبد القادر الكيلاني” بقوله : “نساؤنا غير المتعلمات بنسبة 99 في المئة، فإن أردتم رقي النساء كما تدعون فافتحوا لَهّن المدارس وعلموهن ليكن مدرسة لأبنائهن، ثم انظروا في الفروع فكل بناء لا يبنى على أساس متين يخرب، أنا أرى وجود المرأة ناخبة أو منتخبة أو مبعوثة مع هذا الجهل وفساد الأخلاق مضر لا نافع، ومتى نمت الأخلاق الفاضلة يُنظر في المسألة “.
في حين ذهب البعض ضمن التيار ذاته إلى أنه حتى لو أجاز الدين ذلك فإن العرف الإجتماعي يرفضه ومثال ذلك ما عرضه ممثل نابلس في المؤتمر السيد “عادل زعيتر” : “نعم قد تكون في الشرع إباحة تخول النساء حق التداخل في مثل هذه الأمور، ولكن الشرع لا يقول أن الأمة مجبورة على وضع قوانين ونظامات تُخول المرأة الاشتراك بها، فتقاليدنا الحاكمة تجبرنا على عدم الدخول في هذا المأزق الحرج”.
ما سبق يكشف لنا أنه كان هناك وعي مبكر بأهمية عدم إقحام الدين في كل مسائل التشريع، وهو أمر يُحسب حتى للمعارضين لتلك الحقوق من رجال الدين الذين لم يستقووا بالنص الديني لدعم وجهة نظرهم. ورغم ذلك لا تزال مسألة الدين وعلاقته بالشرائع تشكل معضلة كبرى تواجه واضعي الدستور ومنفذيّه على حد سواء.
دين الحاكم ودين الدولة
استبدلت الدساتير السورية المتعاقبة مسألة “دين الدولة” بــــــ “دين رئيس الدولة” وذلك خلافاً للدساتير العربية والإسلامية الأخرى، ولكن هذا الأمر إن كان قد مَرَّ بهدوء أحياناً إلا أنه كان مَحطَ جدال ونقاش وانقسام في فترات صياغات دستورية أخرى.
دستور 1920 تبنى مسألة دين رئيس الدولة فنص صراحة على أن “حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام”. وحسب رسائل “رشيد رضا” رئيس المؤتمر السوري العام فإن المداولات التي أدت للتوافق حول هذه المادة تضمنت مقترحين، الأول يدعو لأن ينص الدستور على أن الدولة لا دينية، والثاني على أن الدولة إسلامية، وأن التوافق تم بالعدول عن ذكر ما إذا كانت الدولة لا دينية أو إسلامية مقابل أن ينص الدستور على أن دين الملك هو الإسلام. ويؤكد رشيد رضا أنه رأى مخرجاً لهذه الفتنة باقتراح السكوت عنها ويقول: “إن إعلان كونها لا دينية يفهم منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا بحرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها و لا إقرارها، بل يجب إسقاطها عن الإمكان، فالأولى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي، والاكتفاء باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك”.
دستور 1930 أعاد التأكيد على مسألة دين رئيس الدولة مستبدلاً الملك بالرئيس، وتعرض هذا البند لاعتراضات عندما ناقشته لجنة وضع الدستور أمام مجلس النواب التأسيسي، فقد قدم مقرر لجنة وضع الدستور”فوزي الغزي” الأسباب الموجبة لهذا البند في الجلسة الثانية عشرة للمجلس التأسيسي بقوله : “ولذلك أجمع رأي أعضاء اللجنة على إتباع سنّة العصر الحاضر والنزول عند رأي كثرة الشعوب الحديثة فاختاروا الحكم الجمهوري في البلاد السورية، ورأوا أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام، وذلك لإن الدساتير وإن كانت تستمد روحها من المبادىء العامة والنظريات الحقوقية الرائجة في العصر الذي تُوضع فيه، فهي لا تخرج أيضاً عن حدود تقاليد البلاد وعاداتها وآراء الشعب ومعتقداته. فقد كان وما زال لهذه العناصر الأساسية الموضع الأول والموقع الأساسي في جميع دساتير البلاد، لذلك قررت كثرة اللجنة اقتباس هذه الفقرة من الدستور الذي وضعه المؤتمر السوري سنة 1919 فأتت على الوجه المبين في المادة الثالثة المذكورة”.
الاعتراض الأول جاء من النائب نقولا جانجي الذي رأى فيه خرقاً لمبدأ المساواة بين السوريين الذي ضَمِنَهُ الدستور في بند سابق قائلاً : “إن حصر دين رئيس الجمهورية بدين معلوم قد قضى كثيراً على روح المادة السادسة التي تجعل السوريين متساوين بالتمتع في الحقوق المدنية والسياسية، ولرب قائلٍ يقول : ألم يكفك ما أبدته اللجنة من التسامح وسعة الصدر في العدول عن جعل دين رسمي للدولة؟ نعم أنا لا أنكر أن هناك تسامحاً ولكنه ظاهرياً لا يبدل شيئاً من الحالة الحاضرة. والحالة الحاضرة كما لا يخفى إرث عهد بنيت فيه الدولة على أساس الدين، فعدم ذكر دين رسمي للدولة إنما هو من باب المجاملة في الألفاظ ليس إلا. إذا كان يراد حقاً إتيان شيء جديد في نظامنا الإجتماعي فلا يكون ذلك إلا بجعل الدولة محايدة تجاه الأديان “لاييك” وهذا على ما يقال وتعتقده اللجنة لا يتسنى في الآونة الحاضرة نظراً لنفسية الأكثرية. أنا لا أؤاخذ أعضاء اللجنة التحضيرية على مراعاتها رأي الأكثرية العام الذي تمثّله ولكني اطلب إليها أن تنصف وتلاحظ معي أن هناك أيضاً أقلية كثيرة لا تفهم أن يكون نتيجة نضالها في سبيل حرية الوطن من نير أثقل عليها سبعة قرون، بقاءها على ما كانت عليه من عدم المساواة في وطن تعتقد أن لها فيه حق ابن السيد لا ابن الجارية”.
وجاء الاعتراض الثاني من النائب فائز الخوري أمين سر المجلس التأسيسي الذي رغم أنه عبّر عن خيبة أمله فإنه ألمح إلى أن تبني هذا البند لم يكن بسبب تعصب أعضاء لجنة الدستور بل بسبب أن الأمة لم تصل بعد الى المستوى الذي تستطيع فيه أن تقول وأن كلنا اخوان وأن الدين لله والوطن للجميع، مختتماً قوله : “نحن نسعى أن لا يبقى بين أفراد هذا الوطن فرق في أي شيء، وأن نصل إلى يوم يقول فيه السوري أنا سوري و لا يُسأل عن دينه كما هي العادة، لأننا لا نعتد أن نطمئن الى أحد إلا بعد أن نعرف دينه”.
هذا النقاش يدل على الحوار الواضح والصريح بعيداً عن تجميل النصوص والتلاعب بالألفاظ، وكذلك يدل على وجود محاولات مبكرة للتوفيق بين النظريات الحقوقية الحديثة والمبادىء الديمقراطية وبين الإشارة الى العامل الديني.
دستور 1950 أكد على المبدأ ذاته وسط انقسامات جسدت خطورة المسألة وحساسيتها، وساعد المناخ الديمقراطي حينها على النقاش العلني حول هذه المسألة، حيث نشب صراع عنيف في الجمعية التأسيسية حول دين الدولة بين تيار يدعو إلى اعتماد عبارة أن “الإسلام دين الدولة”، وتيار آخر يعارض تبني هذا النص، ونجح التيار المحافظ بداية بإقرار النص وسط انقسام واضح . النائب عبدالوهاب سكر أكد أن “الشعب يريد إقرار ما أقرته لجنة الدستور من أن دين الدولة الإسلام ولن يرضَ بها بديلاً، وحقه ذلك، بلاد عربية إسلامية وأهلها إسلام من قرون وأجيال طويلة يُحملون عل عدم إعلان ما هم عليه في دستورهم إن هذا لأمر عظيم”، فرد النائب الياس دامر داعياً لتبني مبدأ فصل الدين عن الدولة، وأثار النص المقترح حفيظة المعارضين لهذه الصيغة حيث اجتمع رؤساء الطوائف المسيحية في دار بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق وأصدروا في 7 نيسان / ابريل1950 بياناً اعلنوا فيه احتجاجهم على القرار الذي اتخذته لجنة الدستور بأكثرية ضعيفة وبغياب عدد كبير من أعضائها، معلنين استياءهم من ذلك القرار بالاعتذار عن قبول التهاني بعيد القيامة المجيد.
وأوضح الدكتور مصطفى السباعي ممثل الجبهة الاشتراكية الاسلامية ومؤسس حركة الاخوان المسلمين في سوريا وعضو مجلس النواب حينها أن القرار اتخذ لدرء الفتنة عن المجتمع السوري بعد النقاشات الحادة التي غلبت على تفسير هذه المادة، لكنه أثار خلافاً بين المشايخ من رابطة العلماء الذي لم يرضوا بما اتفقت عليه اللجنة والدكتور “مصطفى السباعي” فنشر الشيخ “أبو الخير ميداني بياناً بتاريخ 28 تموز /يوليو 1950 جاء فيه “إن رابطة العلماء يؤيدها الشعب السوري الكريم، رأت أن المادة الثالثة من مشروع الدستور – دين الدولة الإسلام – التي فازت بتأييد الأكثرية، وجاءت وفقاً لدساتير الدول المجاورة ومماثلة لدساتير الدول الأجنبية الكثيرة في النص على ارتباط الدولة بدين الأكثرية، وكانت مؤيدة بألوف العرائض التي قدمتها الأمة ووفودها الكثيرة من جميع هيئاتها وطبقاتها، أصبحت لزاماً لا يصح انتزاعه و لا تعديله”. فاذاع الدكتور مصطفى السباعي بياناً معاكساً طلب فيه من الرأي العام الواعي أن يدرس هذه النصوص الجديدة بهدوء وتجرد، وهكذا تمكنت الجمعية التأسيسية باجتماع 29/7/1950 أن تقر بما يشبه الاجماع النص الذي اتفقت عليه لجنة الأحزاب المشتركة لصيغة المادة الثالثة من الدستور السوري.
في الدساتير التالية، أعادت دساتير 1953 و 1962 و 1964 “مع استبدال كلمة الجمهورية بالدولة” و 1973 و2012 . كلها اعادت نفس صيغة دستور 1950 “دين رئيس الجمهورية الإسلام”. في ما لم تتطرق إلى مسألة دين رئيس الدولة دساتير 1958 و1961 و1969 و و1971.
حرية المُعتقد
يُقصد بحرية الدين أو المعتقد ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، حيث تنص المادة 18 منه على أن ” لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يَدين بدينٍ ما، وحريته في اعتناق أي دين أو مُعتقد يختاره”.
الدساتير السورية تطرقت بشكل مفصل لهذا المبدأ، ففي دستور 1920 وقبل صدور إعلان حقوق الإنسان بسنوات تم التأكيد في الدستور على أن : (لا يجوز التعرض لحرية المعتقدات والديانات ولا منع الحفلات الدينية من الطوائف على أن لا تخل بالأمن العام أو تمس بشعائر الأديان والمذاهب الأخرى).
طرأ تطور في دستور 1930 على مفهوم احترام الأديان إذ بات يشمل وفق النصوص السابقة حرية القيام بجميع الشعائر وكفالة حقوقها والالتزام بأن لا يمس التعليم الدين، فضلاً عن تخصيص مرافق الأوقاف الإسلامية بنص خاص يكفل لأبناء الطائفة الإسلامية دون سواهم إدارة شؤونها : “حقوق الطوائف الدينية المختلفة، والتعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافِ الآداب أو يمس كرامة الوطن أو الأديان”. وبخصوص الأوقاف الإسلامية: “الأوقاف الإسلامية هي بوجه عام ملك الطائفة الإسلامية دون سواها، ويدير شؤونها مجالس ينتخبها المسلمون ويوضع قانون خاص بكيفية انتخاب هذه المجالس” .
في دستور 1950 تم التأكيد مجدداً على نفس المبادىء السابقة لكن مع ملاحظة أن هذا الدستور أشار إلى الأديان السماوية بعد أن كانت النصوص الدستورية السابقة تشير إلى الأديان بصفة عامة دون تخصيص، وفي هذا ابتعاد عن التفسير الذي أشارت اليه اللجنة الدولية لحقوق الانسان بضرورة تفسير كلمة دين وعقيدة تفسيراً واسعاً لا يشمل الديانات التقليدية أو الأديان والعقائد ذات الخصائص أو الشعائر الشبيهة بخصائص الديانات التقليدية وشعائرها فقط، وبحيث لا يجوز التمييز ضد أي دين أو عقيدة لأي سبب من الاسباب بما في ذلك كونها حديثة النشأة أو كونها تمثل أقليات دينية قد تتعرض للعداء من جانب طائفة دينية مهيمنة.
وقد حافظت بعض الدساتير اللاحقة على استخدام عبارة “الأديان السماوية” عند الإشارة إلى هذا المبدأ (دساتير 1953 و1962 و1964)، فيما اكتفت دساتير أخرى باستخدام عبارة “الأديان” فقط (دساتير 1969 و1971 و1973 و2012 ). ولم يتطرق دستوري 1958 و1961 لهذه المسألة.
من الملاحظ أن حظر التمييز على أساس الدين تجاهلته أغلبية الدساتير السورية حيث لم يتم التطرق اليه إلا في ثلاثة دساتير فقط من أصل 12 دستور، فغاب عن دساتير 1920 و1959 و1953 و1961 و1962 و1964 و1969 و1971 و1973، ونص دستور 1930 على أن “السوريون لدى القانون سواء وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وما عليهم من الواجبات والتكاليف ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الدين أو المذهب أو الأصل أو اللغة”. وفي دستور 1958 تم التأكيد على هذه المادة التي غابت لأكثر من نصف قرن عن الدساتير السورية لتعود في دستور 2012 وتتبنى نفس المبدأ: “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات. لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
العروبة
بدأ تأثير العروبة وبدرجات متفاوتة منذ المراحل الأولى لتأسيس الدولة السورية وقد سميت عام 1920 بــــــ”المملكة السورية العربية”، ودأب مباشرةً القائمون على هذا الكيان الجديد، وعلى رأسهم “فيصل الأول” كملك لها وهاشم الأتاسي الذي ترأس المؤتمر السوري، بإعداد مشروع دستور. وعلى الرغم من اعتبار العربية لغة رسمية. فإنّ هذا المشروع انطلق بشكل أساسي من قاعدة التساوي أمام القانون في الحقوق والواجبات، ولم يحدد هوية ثقافية قومية شمولية لجميع السوريين. إلا أن مشروع الدستور هذا لم يتم اعتماده نتيجة لبدء مرحلة الانتداب الفرنسي في سوريا، وقد شهدت فترة الانتداب الفرنسي اعتماد دستور عام 1930 الذي اقتصر على ذكر “الجمهورية السورية”من دون إطلاق صفة العربية على الدولة الناشئة. أمّا دستور عام 1950، فقد تمّ تبنّيه من طرف الجمعية التأسيسية المشكّلة ديمقراطياً في26 تشرين الثاني/ نوفمبر1949. وعلى الرغم من ديمقراطية اعتماده وأيضاً تركيز أحكامه على حقوق المواطنين وسُلطة الشعب، الا أنه تعرض للكثير من الانتقادات ولاسيما من ناحية تحديده لهوية الدولة الثقافية وخاصة العروبة. فتنصّ مقدمة هذا الدستور على العبارة التالية “نحن ممثلي الشعب السوري العربي (…)”. وتتكرر نفس هذه العبارة في المقطع الأخير من مقدمة الدستور والذي يُشير أيضاً بأنّ “هذه المقدمة جزء لا يتجزأ من هذا الدستور”. أمّا المادة الأولى منه، فتشير إلى أنّ “سورية جمهورية عربية ديمقراطية” وأنّ “الشعب السوري جزء من الأمة العربية” وتعتبر المادة الرابعة بأنّ العربية هي اللغة الرسمية، دون أية إشارة إلى اللغات الأخرى.
توقف العمل بدستور عام 1950 إبان عهد الوحدة مع مصر، وإعلان “الجمهورية العربية المتحدة”، حيث اُعتمد فيها دستور مؤقت استمر إلى تاريخ الانفصال عام 1961، أعيد بعدها العمل بدستور عام 1950 بعد إجراء بعض التعديلات عليه، ولاسيما تسمية “الجمهورية العربية السورية” بدلاً من “الجمهورية السورية”. وقد أُطيح بهذا الدستور نهائياً عام 1963 على إثر الانقلاب العسكري، المعروف باسم “ثورة الثامن من آذار”، الذي قادته مجموعة من الضباط البعثيين. فاعتمدت هذه السلطة الجديدة بعض الدساتير المؤقتة التي تهيمن عليها أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي كان آخرها دستور عام 2012.
في دستور 1973 تبرز بشكل واضح هيمنة الأيديولوجيا البعثية العروبية، الذي كرّس نظام الحزب الواحد المهيمن على مختلف مفاصل الحياة. فقد طبعت إيديولوجيا الحزب الحاكم العديد من المواد الدستورية، ولاسيما المادة الأولى التي اشتملت على مصطلحات “عروبية” عديدة منها “الجمهورية العربية السورية”، ” القطر العربي السوري”، ” الوطن العربي”، “الامة العربية”. كما ألغت مادته الثامنة التعددية السياسية بنصّها صراحة على أنّ “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة اهداف الامة العربية”. ويهدف نظام التعليم والثقافة، بحسب المادة 21 من هذا الدستور، ” إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي علمي التفكير مرتبط بتاريخه وارضه معتز بتراثه مشبع بروح النضال من اجل تحقيق اهداف امته في الوحدة والحرية والاشتراكية”. وتعتبر المادة 23 بأن “الثقافة القومية الاشتراكية اساس بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد وهي تهدف الى تمتين القيم الاخلاقية وتحقيق المثل العليا للامة العربية”. أمّا القَسم الدستوري، وكما جاء في المادة السابعة، فيلزم بالعمل “لتحقيق اهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية”. وحتى الأحكام القضائية تصدر، بحسب المادة 134، “باسم الشعب العربي في سوريا”.
وفي شباط/ فبراير 2012 صدر دستور جديد ورغم الظروف الصعبة التي كانت تمر بها سوريا إلا نص الدستور الجديد لم يخرج من عباءة دستور 1973، على الرغم من التراجع عن المادة الثامنة التي كانت تُشير الى أنّ “حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع”. فيشهد الدستور الجديد، كحال دستور عام 1973، على تأثير أيديولوجيا القومية العربية، إذ ينص في مقدمته: “تعتز الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية.”ويكرر الدستور السوري المصطلحات العروبية الواردة في دستور عام 1973، بل ويضيف عليها مصطلحات مثل “الحضارة العربية” “الدور العربي السوري”، “قلب العروبة”، الخ. والمادة الرابعة تؤكّد بأن “اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة”، دون الإشارة إلى اللغات الأخرى والحقوق الثقافية للناطقين بها. أمّا المادة السابعة المتعلقة بالقَسم الدستوري فقد استمدت صياغتها أيضاً من الدستور السابق في إشارة إلى ضرورة العمل من أجل تحقيق “وحدة الأمة العربية”.
صحيح أنّ اعتبار العروبة كأساس أيديولوجي جامع لكل القاطنين في العالم العربي قد نجح في توحيد صفوف المسيحيين والمسلمين خاصة في منتصف القرن الماضي وفي فترات النضال ضد الإستعمار، إلا أنّ هذه الأيديولوجيا أثبتت عجزها لاحقاً عن تعزيز مبدأ المواطنة وتحقيق اندماج المنتمين للأقليات غير العربية، كما أنها لم تحقق حتى اليوم أياً من أهدافها وجلبت لقاطني هذه المنطقة الكثير من أعمال الاضطهاد تحت مسميات الشعارات التي رفعتها الأحزاب السياسية الحاكمة والعاملة باسمها. وفي هذا الإطار، تتعالى الأصوات من أجل تجريد الدولة من الأيديولوجيا، سواء أكانت الدينية أو القومية لصالح إقامة الدولة المدنية التي تقدّم خدماتها للمواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية. ويبرز التساؤل المُقلق عن ماهية الهوية الوطنية الجامعة للسوريين، ومدى إمكانية تعزيز النزعة الوطنية على أساس مبدأ المواطنة الانسانية أي الانتماء إلى سوريا أولاً واحترام التعددية الأثنية والدينية فيها مع تعزيز التكافل الإنساني تجاه شعوب المنطقة العربية وتطوير التعاون المشترك بينها كحال العقد المبرم بين دول الاتحاد الآوروبي.
وبعد..
يبدو مما سبق أن الشعب السوري وعبر تاريخه الحديث عرف آليات متعددة ومتباينة لكتابة وثائقه الدستورية: جمعيات تأسيسية معينة أو منتخبة، دساتير مفروضة من حاكم فرد أو مجلس عسكري أو جهات حزبية، دساتير دخلت حيز التنفيذ باستفتاء أو بدونه.
لكن بالمجمل لم يُتَح للشعب السوري بالفعل أن ينخرط في عملية دستورية حقيقية تتوافق مع المعايير الديمقراطية الواجبة الإتباع، وخصوصاً لجهة احترام قواعد التشاركية والشفافية والمشاركة المجتمعية اللازمة سواء لجهة كتابة الدستور أو لعملية مناقشته أو الاستفتاء عليه مع ملاحظة أنه إذا تمت مراعاة بعض المعايير يتم إهدار البقية الاخرى أو لا يدخل الدستور حيز التنفيذ أو لا يستمر طويلاً ما يعزز الحاجة لتوفير الظروف الملائمة لعملية دستورية حقيقية يتاح فيها لجميع السوريين نساءً ورجالاً على قدم المساواة دون أي إقصاء أو استثناء أو تمييز أن يساهموا بعملية دستورية ترسم ملامح عقد وطني جديد ينهي أزمة البلاد الحالية ويكفل لها مقومات التعافي اللازمة.
ميدل إيست أونلاين