الذبيحة

بشير العاني، شاعر «دير الزور» التي كان الدينامو الثقافي فيها. اليساري، بل الشيوعي الذي أصرّ على أن يبقى في بلده الساقط تحت الرايات السود، الشاعر الطليعي الذي كتب عن الشعر أنه المرأة التي تنام حينما تستيقظ أنت، الإنسان والمواطن السوري، يُعدم مع ابنه في عرس دم. «داعش» يقوم بجريمته النموذجية، ليس ضد الشعر فحسب، بل ضد الفكر والضمير. وبشير العاني سيكون ليس فقط القربان والذبيحة بل أيضاً الرمز والشاهد.

مَن هو القادر على النجاة من حتمية التراجيديا السورية التي تشارف على دخول عامها السادس؟ مَن يجرؤ أصلاً أن يعلو صوته فوق صوت شحذ السكاكين وفتاوى المشرحة؟ بالأمس كان عالم الآثار خالد الأسعد معلّقاً فوق عمود كورنثي في ساحات تدمر. واليوم يُذبح الشاعر بشير العاني (1960) مع ابنه (بتهمة الردة). صحيح أن لا صور بعد، حتى الآن عن «الذبيحة» الجديدة «لداعش»، لكن مواقع التواصل الاجتماعي – السورية منها تحديداً – لا بدّ أن تجد أصابع ناشطيها رابطاً إلكترونياً لذلك المشهد. كل ما في الأمر، أيام من التعليقات الغاضبة، وأخرى من تلك التي استثمرت سياسياً – ومن اللحظات الأولى لاندلاع الخبر- في موت شاعر الفرات، محمّلةً هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الاغتيال؛ في حين تغيب أنفاس الشاعر مرددةً صرخة مهيار جديد: «وافراتاه، كن لي جسراً وكن لي قناعاً». وللأسف، لم يستطع مهيار، هذه المرة، عبور النهر المصطبغ بدماء آلاف السوريين الذين أعدمهم «تنظيم الدولة الإسلامية»، فأجنحة «الصقر» غاصَت في تلبّدات الدم، مسلمةً روحها العالية لزفرات كررت شهقات ابنه المذبوح أمام ناظريه؛ وأي ختام؟ أي ختامٍ هذا لسيرة الشاعر؛ ونحن بالكاد كانت أرواحنا تَضمر وتبرد وجلاً، كلما قرأنا في مذكرات «لويس بونويل» عن اغتيال صديقه «لوركا»، هناك بين أشجار الزيتون حيث أغمضوا عيني عاشق «غرناطة» الخائفتين لرصاص مزّق قلبه الرهيف؛ يتلاقى «عرس الدم» الأندلسي بعرس الدم الشامي؛ وكأن الشعراء لا تكتمل تجربتهم إلا بحادثة موت عبثية كهذه؛ فتتلاقى أنفاسهم وهي تنظر بعيونٍ مطفأة نحو وجوه القتلة، تتلاقى صرخات «بيت برناردا ألبا» مع استغاثات سبايا الجزيرة السورية وانقطاع جسر «المعلّق» بالسائرين فوقه ذات غروب في أيام رائعة مضت.

«متاريس الرغوة»، نصه الشعري، بالإضافة إلى بعض المقالات التي كان يواظب على كتابتها في صحيفة «الفرات» كما في بعض المواقع الإلكترونية، تهدينا مباشرةً إلى تجربته التي تغذت ممّا كان قد ذكرها ونظّر لها الشاعر الراحل في محاضراته المطوّلة عن «طلائع الحداثة الشعرية في دير الزور»، إذ جاءت نصوص بشير العاني الأولى، كتنويع على قصيدة التفعيلة التي كان لها جمهورها العريض في مدينته؛ كما هو الحال مع قصائد أحمد حسين الموح ومروان خاطر. الأصوات الشعرية التي كان لها أثرها الكبير منذ ستينيات القرن الفائت في تجربة العاني؛ وصولاً إلى شعراء قصيدة النثر في «عروس الفرات» والذي تماهى الراحل مع مقترحاتهم في الحداثة الشعرية؛ ليصبح في ما بعد مفارقاً كلياً لنصوص سبقته أو جايلته امتدت في جيل الثمانينيات لتنضج لاحقاً مع جيل التسعينيات..

هزائم حزيران وجفاف الفرات العظيم ويباس الأرض واحتدام الصراع الطبقي بين أغنياء دير الزور وفقرائها؛ جعلت العاني من جيل نظر إلى الوراء بغضب؛ غضبٌ ترك لطخاته وصوره الشعرية على مساماته، إذ كان حضوره ينمو يوماً بعد يوم في الوسط الثقافي لدير الزور، ممتداً إلى شرق الفرات وغربه عبر رغبته في تنشيط الحركة الشعرية؛ وجعل القصيدة خط دفاع أول عن كرامة الإنسان وحياته؛ منساقاً بذلك خلف أفكاره التي صاغته مذ انتمائه للحزب الشيوعي السوري، (التهمة) التي سيحاكم عليها الشاعر من قبل «التنظيم الأسود»، ليكون «الشاعر المرتدّ» شهيداً جديداً من شهداء الفكر، وذكرى مؤلمة تضاف إلى سيل ذكريات الحرب السورية.

لم يكن نشاط العاني مقتصراً على مدينته بل تعداها إلى الحسكة والرقة والقامشلي؛ مطوّحاً بأفكاره على منابر مسارحها ومراكزها الثقافية؛ مجسّداً بذلك رغبته في توثيق «صراخ جماعي وأحلام متشابهة» في القصيدة الحديثة التي كتبها أبناء الجزيرة السورية، بعيداً عن أقرانهم من سكان المدن الكبرى في دمشق وحلب واللاذقية؛ فهو لم يعتبر يوماً أن مدينته النائية عن مراكز العاصمة ومؤسساتها الثقافية؛ إلا كونها متناً لا هامشاً؛ ذلك المتن الذي كانت تنمو الحركة الشعرية والثقافية عموماً فيه على مهلها؛ فلا تحرق مراحل ولا تقفز فجأة إلى التجريب على اللغة بمعناه الواسع؛ بل تقطّر نصها الخاص في مختبرها البطيء، من دون أن تخضع لموضة الحداثة أو ترفعها شعاراً خطيراً وتهديداً ثقافياً في وجه الشعر وأنصاره.

صحيح أننا لن نعثر في خزينة هذا الشاعر إلا على ثلاثة إصدارات هي «رماد السيرة» (1993) و «وردة الفضيحة» (1994) و «حوذي الجهات» (1995)، فيما لم يخرج كتابه «مضائق الجسد» إلى النور؛ إلا أنها كانت كافية لنعرف كم كانت دير الزور مدينة قريبة يا… دمشق!

آخر ما كتبه

«ما يخفف عني أني استطعت أن أحفر لكِ قبراً؛ وأن أهــــيلَ التراب على جسدكِ الجميل.. بلى.. هذا ما يخفف عني الآن وأنا أراقب الأجساد المعلّقة على الأعواد بانتــــظار شفاعة الأمهات كيــــما تترجّل.. هـــذا إن بقيت للأمهات هذه الأيام شــفاعة لدى أمراء الحرب، (حجّاجو) العصر..

وبالذعر البشري الذي تستطيعه روحي، أفكرُ بالجثثِ المرميةِ في المدن والمزارع والبلدات؛ جثثٌ برؤوس وأخرى بلا رؤوس! لكن مَن سيأبه بها أكثر من القطط والكلاب الشاردة..؟ و(الحقَّ أقول لكم.. لا حقّ لحيٍّ إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات)».

بشير العاني في سطور

مواليد دير الزور 1960
شاعر وصحافي
حاصل على إجازة في الهندسة الزراعية.
صدر له ثلاث مجموعات شعرية:
رماد السيرة 1993
وردة الفضيحة 1994
حوذيّ الجهات 1995
وهو عضو اتحاد الكتاب العرب في سوريا.
وعضو جمعية الشعر.
أُعدم مع نجله على يد تنظيم «داعش» في دير الزور آذار 2016.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى