الذكرى الستين لاستشهاد البحار السوري جول جمال (2): البحار ..
تبدو اللاذقية مدينة سورية مشرقة تنهض في مواجهة البحر الأبيض المتوسط من جهة الشرق كشامة على وجه هذا الساحل الشرقي .. شامة جميلة .. بحث الأقدمون عن شكل للكتابة يصفون به حسنها، فاخترعوا أبجدية أوغاريت ..
هناك وقع خاص لموج شاطئ اللاذقية، يشبه هذا الوقع صدى لأغنيات قديمة كتبها السوريون على رقم من فخار وطين ليحفظ الزمن عبارة تقول أن ثمة مدينة في واجهة البحر تنجب بحارة وشعراء وفرسان .. هنا مشى شاب سوري جميل .. على هذا الشاطئ يحلم بفارس يعشق البحر يخوض الموج دفاعا عن بلاده ، ربما راقت له الفكرة، فهل هناك فرسان للبحر .. كان هذا الشاب يعشق حكايات الفروسية التي كان يسمعها من المقاهي التي جذبته واحدة منها ذات مرة فسمع فيها من الحكواتي مختصرا لقصة فارس من التاريخ.. يومها ، أسرجت الريح فرسا جميلة لهذا الشاب ركب عليها وهو يرتدي ثوبا أبيض لم يكن يتوقع أن يجعله هذا الثوب قامة عربية اسمها البحار : جول جمال.
***
كان جول جمال قد ولد في جبال شبيهة بجبال اللاذقية، جبال يحن إليها ويزورها، لكن البحر كان يأخذه إلى أبعد منها، كان يأخذه إلى سحب بيضاء بيضاء تذكره بسحب بيضاء كان رآها في أعالي قريته الجميلة التي يسمونها المشتاية !
هاهي جبال المشتاية ، سحر خاص من جمال أخاذ يحيط بالسوريين الذين قطنوا هذا الأرض على مر الأزمان.. وبلدة المشتاية القريبة من حمص تحمل من الجمال وجها سوريا يأسر من يشاهده .. وتقع المشتاية كما تروي المصادر التاريخية والجغرافية في أحضان وادي العطشان عند قدم جبل السايح على ارتفاع 467 مترا فوق سطح البحر وهي تطل على سهل عكار من الغرب حتى البحر الأبيض المتوسط ومن الجنوب على قلعة الحصن..
تتوزع بيوت المشتاية على سفح تلّة ساحرة اسمها تلة بنّوت التي تتفرع من أقدام جبل السايح الجنوبية, تحيطها الينابيع المتعددة من جميع الجهات : عين الجوزه – المرحة – عين البصل – عيون كفره – عين الحجل – عيون البرك – عين الرواس – عين الفاروخ – عين سعود… إلخ
من هذه العيون شربت أسرة جول جمال ماء طيبا عبر التاريخ قبل أن تنتقل إلى مدينة اللاذقية عند شاطئ البحر ، وتقول إحدى الحكايات إن من يشرب من هذه العيون ، سيسري في دمه نسغ يحمل عذوبة الماء ورقة الشجر.. لذلك فإن ثمة أدباء وشعراء حافظوا وحفظوا تراثها شعراً وهم يفاخرون بأمجاد من قدّموا ويقدّموا التضحية والولاء للوطن العربي الكبير متمثلاً بابنها الشهيد البطل جول جمال. هنا ولد جول جمال .. لم يمنعه حبه للبحر من أن يبحث في تاريخ بلاده بل إن البحر أخذه إلى الجغرافيا والجغرافيا أخذته إلى معنى وطنه ومكانة هذا الوطن في التاريخ..
يقول شاهد من أبناء تلك البلدة التي اسمها المشتاية :
«كانت ولادة “جول جمال” سنة1934 في قرية “المشتاية” وانتقل هو ووالديه للعيش في “اللاذقية” حيث كان أبوه “يوسف الياس جمال” طبيبا بيطرياً ومدير للصحة الحيوانية في “اللاذقية”.)) .. كان”جول” وفي كل صيف يأتي إلى “المشتاية” حتى نال الشهادة الثانوية، واشتهر بصلاته الحميمه مع أقاربه وأبناء بلدته رغم أن إقامته الفعلية غدت في مدينة اللاذقية التي أحس تجاهها أنها بلدته الثانية التي سيحمل اسمها وتحمل اسمه !
تلك المحطة أساسية في حياة جول جمال، لكن اللاذقية أسست في بنيان جسده وعقله بعد انتقل إليها ليدرس في مدارسها في واحدة من أهم المحطات في حياته، فقد حصل أنهى المرحلة الابتدائية من تعليمه عام 1943، ولم تكن سورية قد استقلت بعد، وكانت اللاذقية في ذلك الوقت مثلها مثل كل المدن السورية تتطلع لاستقلال سورية عن دولة الاستعمار الفرنسي..
استقلت سورية، والوطنية والعروبة رايات ترفرف في أنحاء البلاد، وقد نما عوده واستكمل دراسته الإعدادية في قلب هذه الأجواء التي استقلت فيها سورية عام 1946 ..
عندما حصل على الشهادة الثانوية كان جول جمال في مدينة دمشق وكان أبوه يرغب بأن يتابع “جول” تحصيله الجامعي لكن “جول” كان يستعيد لغة الموج ويهم بالعودة إلى اللاذقية لأن فروسية البحر تناديه!
هذه هي مدينة اللاذقية .. تحكي لك عن فتى تغزل في الشاطئ، فتغزل البحر باسمه اسمه جول جمال. رصد الموج وهو يتطلع إلى الأفق البعيد حالما بمجد خالد لايحققه إلا الشهداء ..
لذلك كانت الطريق واضحة أمامه، مشى فيها بإصرار .. لم يحقق رغبة أبيه في متابعة دراسته الجامعية كان الانتساب إلى الكلية البحرية هاجسه وطموحه، فدخلها، وفي الكلية البحرية شرع جول جمال في رسم الطريق الصحيح ليكون بحارا ..
***
كيف يمكن للإنسان أن يصبح بحارا ؟
في حكايات البحر ترسم السفن الذاهبة إلى الشطآن البعيدة ملامح الصورة الحقيقية للبحارة ، فهم مسافرون دوما . يحملهم الموج في طرق ساحرة كالخيال ، لكن حكايات البحارة الذين دخل معهم جول جمال كانت من نوع آخر . كانت نوعا لاتسافر فيها السفن إلى الشطان . كان تدافع فيه عن شطآن الوطن الذي تعيش فيه ..
في نفس العام الذي دخل فيه جول جمال الكلية البحرية كانت سورية تغذ السير باتجاه الوحدة مع شقيقتها مصر، وكان التعاون بين البلدين مفتوحا على أبعد مدى لذلك أوفد جول في بعثة عسكرية تضم 10 طلاب سورين للالتحاق بالكلية البحرية في”مصر” ليتابعوا تحصليهم هناك ، وتصبح لصفة البحار أبعاد أخرى لايعرفه إلأا المدافعون عن الوطن الغالي ..
في شهر أيار من عام 1956 تخرج البحار جول جمال من الكلية البحرية محققاً المرتبة الأولى على دفعته من الضباط السورين الذين سافر معهم في تلك البعثة، وصار جول جمال بحارا يحمل رتبة ملازم ثان..
في مصر اكتشف جول جمال أيضا أن المياه التي تعلم فيها عند شطآن مصر هي المياه نفسها التي عشقها عند شطآن سورية ، كان يسير على شاطئ الاسكندرية وهو يستعيد صوت الموج عند شاطئ اللاذقية ..
وكان جول جمال أيضا يستعيد صور المدينة التي كان فيها يحلم بحياة البحر . كانت مياه مصر تشعل فيه حبا شبيها بحب مياه سورية .. ولأن مصر كانت تعد العدة لبناء مكانتها الحضارية والوطنية بين أمم الأرض ، أحس البحار السوري جول جمال أنه معني بهذه المكانة لأنها مكانة ترتبط عبرالتاريخ بمكانة بلده الغالي الذي أوفده إلى مصر ليصبح بحارا من بحارة متوفقين يحلمون بالمجد الذي يخلدهم كما هو صوت الموج عبر الزمن !