لقد تمكن “الربيع العربي”، بشعاره الذي فاجأ العالم “الشعب يريد إسقاط النظام”، من الإطاحة بأربع أنظمة ديكتاتورية عتيدة خلال أقل من عام، وهو إنجاز لم يكن يتوقعه أكثر المتفائلين. لكن أمام هذا “الربيع”، الذي لم تقتصر آثاره على دول بعينها بل عمت جميع الدول العربية، تحديات مستقبلية كبيرة، تشمل مجموعة من التحولات والمتطلبات الإصلاحية الديمقراطية الحقيقية، لا التجميلية الشكلية. صحيح أن الديمقراطية هي مصطلح يوناني مؤلف من كلمتين هما “ديمو” و”كراسي” وترجمتها هي “حكم الشعب”، لكني من المعجبين بمفهوم ابراهام لنكولن للديمقراطية حيث يقول: “كما أنني لا أرضى أن أكون عبدا، فإنني لا أرضى أن أكون سيدا. هذا هو مفهومي للديمقراطية”، وهذا ما يجب أن يضعه نصب أعينهم الحكام اللذين أفرزهم “الربيع العربي”.
مع حلول عام 2011 أدرك الشباب العربي أن الديمقراطية عمت جميع أنحاء العالم من دول أمريكا اللاتينية غربا إلى أقصى آسيا شرقا، مرورا بالكثير من الدول الإفريقية. وبقي الوطن العربي هو أحد أهم الساحات الديكتاتورية القليلة المتبقية في العالم، فانتفض وثار على هذا الواقع المخزي الذي وصلت إليه أمة تعتبر نفسها من أعرق الأمم في العالم.
ولا شك أن عام 2011 كان استثنائيا بكل المقاييس، فقد كانت التحولات من العمق بحيث أنها أطاحت بكل المحرمات، ليس أقلها الواقع السياسي المزري غير القابل للتطور الذي فرضته الأنظمة الديكتاتورية، والزعامات “التاريخية” وفرض سلوكيات “تأليهها” على الشعوب. ولقد أسست هذه التحولات لما سيأتي بعدها، لذا ستدخل أحداث 2011 التاريخ بوصفها سنة “تأسيسية” لتاريخ جديد لمنطقة تعتبر من أهم مناطق العالم، إن لم تكن أهمها.
يبدو للمتابعين أن مرحلة الخضوع والاستسلام والإحباط والبؤس العربي التي استمرت طويلا أوشكت على الانتهاء، لأن التحولات الاستثنائية التي بدأت سنة 2011 أسست لحالة نفسية وسياسية وفكرية عربية جديدة، فالربيع العربي لم يحدث ثورة في الواقع السياسي العربي فحسب، بل الأهم أنه أحدث ثورة في عقلية ونفسية المواطن العربي، فتحولت الحالة النفسية العربية من اليأس إلى الأمل، ومن الإفراط في التشاؤم والسوداوية إلى التفاؤل، وإن كان مازال هذا التفاؤل حذرا، وهو حذر مشروع كون الديمقراطية شئ مجهول بالنسبة للمواطن العربي، والإنسان بطبعه يتوجس من المجهول. وهنا تقع مسؤولية كبيرة على جميع القوى التي صنعت “الربيع العربي” تتمثل في إثبات أنها على قدر من المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها في بناء نظام سياسي، اجتماعي واقتصادي جديد يلبي طموحات الشعوب التي ثارت على الواقع السابق، ويقنع الفئة التي لم تقتنع حتى الآن بأن “الربيع” هو فعلا ربيع، والتي تذهب إلى أبعد من ذلك لتصفه ب “الخريف”.
إن الانقسام الحاصل في المجتمعات العربية حول “الربيع العربي” أمر واقع، بين من يعتبره “ثورة شعوب” ومن يعتبره “مؤامرة”، وقد يقول قائل أن هذا الانقسام طبيعي، فالاختلاف في الرأي لايفسد للود قضية بل هو أمر صحي، وهذا صحيح في مجتمعات عرفت وخبرت معنى الاختلاف الحضاري على مر سنوات من وجود هامش كبير من الحرية والديمقراطية، أما في مجتمعات تربت على عقلية إقصاء الآخر، وعقلية التخوين، وعقلية “الرأي والرأي” بدلا من عقلية “الرأي والرأي الآخر”، فإن الاختلاف في هذا الوقت وفي موضوع مصيري يجعلنا نشعر بالقلق لأن الوقت الآن هو وقت التوحد ورص الصفوف لا وقت الخلافات العبثية التي لن تقدم ولن تؤخر، فالزمن لا يعود إلى الوراء، وما بدأ عام 2011 لا يمكن لأحد محوه من تاريخنا.
لا يختلف اثنان على أن إسقاط الأنظمة الديكتاتورية ليس أمرا سهلا، لكن الأصعب منه هو بناء أنظمة ديمقراطية على ركام تلك الأنظمة، لذا فإن السنة الثانية من عمر “الربيع” هي لاشك سنة شاقة، وأصعب ما فيها هو التأسيس لعهد جديد و مختلف يؤمل أن يلبي طموحات المواطن العربي في العيش بكرامة وحرية وديمقراطية.
السنة الثانية من “الربيع العربي” أهم من السنة الأولى، فإما أنها ستبدأ في تحقيق أهداف المواطن الذي حلم طويلا بهذا الربيع واستطاع أخيرا أن يؤسس له، وتثبت في الوقت نفسه للمشككين بهذا “الربيع” أنهم مخطئون، أو مجحفون، أو أنها ستفشل في تحقيق الحد الأدنى من طموحات أولئك الذين علقوا آمالا كبيرة على هذا “الربيع”، وهذا الاحتمال سيكون كارثيا بكل المقاييس وسيؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها على مستقبل هذه المنطقة التي عانت شعوبها ما عانت من قهر وظلم خلال العقود الماضية، لذلك فالجميع مدعو إلى الحوار البناء، إلى فهم الآخر والانفتاح عليه، إلى النظر إلى مصلحة الأوطان لا المصالح الشخصية الضيقة. الطرفان مدعوان في عام “الربيع” الثاني إلى وضع هدف واحد نصب أعينهم هو بناء الوطن لأنه في النهاية هو وطن الجميع مهما كان الاختلاف في وجهات النظر.