“الربيع العربي” يدخل سنته الثالثة بأزمات سياسية واقتصادية في مصر وليبيا وتونس (سوسن أبوظهر)

 
سوسن أبوظهر

حكومات الإسلام تتخبط والاصطفاف يشطر الشعوب والثغرات الامنية مكسبٌ للمتشددين، إذ يبدأ "الربيع العربي" سنته الثالثة، لا يزال مولوداً عاجزاً عن السير بخطى واثقة، فالعثرات تتوالى في كماشة المراحل الانتقالية. وإذا كان تقويمه التاريخي مبكراً، تُمكن ملاحظة عوامل مشتركة، أبرزها صعود الإسلاميين، معتدلين ومتشددين، مستفيدين من أخطاء خصومهم وتشرذمهم وضعف السلطات السياسية الموقتة. من مصر إلى لييبا وتونس، تقف الشعوب على مفترق طرق بين الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، ومخاضات الهوية والدستور وشبح الانقسامات الداخلية. فهل هي أمام محاولات لتصحيح المسار أم فوضى مفتوحة على كل الاحتمالات؟
مجلة "تايم" التي اختارت الرئيس الأميركي باراك أوباما شخصية السنة، صنفت نظيره المصري محمد مرسي "وَصيفاً". وتساءلت "هل هو إسلاميٌ ديموقراطي بعيوب أم ديكتاتور قيد التكوين"، و"ما الآفاق الحقيقية لديموقراطية إسلامية". ولعل السؤال الأخير يلخص معضلات بلدان "الربيع العربي".

مصر:"الإخوان" وتراكم الأزمات
عن مرسي قال إسلام، ابن شقيق رئيس حزب الحرية والعدالة سعد الكتاتني، لصحيفة "الوطن" بعد انشقاقه عن الجماعة التي نشأ في كنفها رفضاً لعنفها حيال المعارضة، إنه "مطيع وبيسمع الكلام". وأكد أن "مكتب الإرشاد هو الحاكم، ومرسي مسؤول الجماعة في الرئاسة"، و"اختزل مصلحة الوطن في الجماعة".
وإذ يتهم الكتاتني "الإخوان" بأنهم جنحوا نحو "البلطجة" للسيطرة على مؤسسات الدولة بعد إقصاء المعتدلين في مكتب الإرشاد مثل المرشح الرئاسي الخاسر عبدالمنعم أبوالفتوح، لا ينفي وجود جهاز استخباراتي للجماعة. ويتحدث عن "تفاهمات" مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة أوصلت مرسي إلى الرئاسة باعتباره خياراً أكثر فائدة من الفريق أحمد شفيق.
 وإذا كان الرئيس استغل الهجوم على الجنود في سيناء في آب للتخلص من الحرس القديم في المؤسسة العسكرية، فإن ذلك ما كان ليتم بلا موافقة، لنقل عدم اعتراض، الجيل الأصغر من العسكريين، وبينهم الفريق أول عبدالفتاح السيسي، القائد العام الجديد للقوات المسلحة، وهو ذو ميول إسلامية. ولا تزال مصالح "الإخوان المسلمين" والمجلس العسكري غير متعارضة. لكن ذلك قد يتغير لو تجاوز مرسي الحدود المقبولة في صراعه مع المعارضة، وإذا عملت الجماعة على أسلمة فعلية للجيش الذي يبقى المؤسسة الأقوى في البلاد، وربما الوحيدة. فالمؤسسات المدنية في شبه عصيان، من احتجاجات المستشارين الرئاسيين والقضاة والصحافيين والديبلوماسيين، إلى استقالة نائب الرئيس محمود مكي. والدستور الجديد يضع الجيش في موقع متقدم، فله استقلالية في إدارة شؤونه وعملياته والتخطيط لاستراتيجيته وموازنته.
مع أن نتائج الاستفتاء في مرحلتيه أشارت إلى تراجع، رقمي على الأقل، في شعبية "الإخوان" واعتماد متزايد على الأصوات السلفية، وهذا سلاح بحدين، فإنها أظهرت المعارضة في موقع رد الفعل لا المبادرة. ومن المستبعد أن يكون الحزب السياسي الذي قررت تأليفه كياناً متجانساً يسمو فوق التنافسات الداخلية الضيقة، خصوصاً أمام استحقاق الانتخابات العامة.
غير أن المعادلة الشعبية، معادلة الشارع، معاكسة لتلك السياسية. فـ"الإخوان" تحرك أنصارها رداً على شبان ميدان التحرير. ومن هؤلاء الروائية والأستاذة الجامعية منى برنس، وهي من ناشطي ثورة "25 يناير" وتعتزم الترشح للرئاسة. قالت لـ"النهار"، إن "الشعب لم يعد ينتظر دعوة من أي كان. وحلقات النقاش المستمرة في الميدان  بشأن مستقبل البلاد من أهم إنجازات الثورة"، وكل ذلك مهد لـ"الثورة الثانية على رئيس فاشل". ورأت أن "الإخوان" أخطأوا في عدم الالتزام بتعهداتهم، ثم التلاعب بهوية مصر، وتكفير المسلمين المناهضين لهم والمزايدة في التدين. بينما "فكك المحتجون هيبة الرئاسة والتيارات الدينية. فالرئيس يقبع في قصر كتبت على أسواره أقسى الشتائم له".
يبقى أن الهزات السياسية رفعت البطالة إلى 12 في المئة والتضخم إلى 10 في المئة. وانخفض احتياط العملات الأجنبية من 35 مليار دولار إلى 15 ملياراً، وسجلت الموازنة عجزاً بـ13 ملياراً في خمسة أشهر. وهذه قنابل موقوتة، خصوصاً بعد خفض التصنيف الائتماني للبلاد وإرجاء الحكومة التقدم بطلب القرض من صندوق النقد الدولي البالغ 4،8 مليارات دولار.

من يحكم ليبيا؟
وفي ليبيا لا يقل المشهد تعقيداً، فالعامل الإسلامي حاضرٌ بقوة. وإذا كانت انتخابات المؤتمر الوطني العام خذلت "الإخوان المسلمين" هناك في مقاعد الأحزاب، فإن إسلاميين فازوا بصفة فردية. وبينهم عبدالوهاب قائد الذي كان أبرز رموز "الجماعة الإسلامية المقاتلة" في الجنوب الليبي، وهو شقيق القيادي في تنظيم "القاعدة" حسن محمد قائد المكنى "أبو يحيى الليبي" الذي قضى في غارة أميركية في باكستان. وخارج الإطار السياسي، ارتبط اسم جماعة "أنصار الشريعة" بخروقات أمنية فاضحة مثل تدمير ضرائح صوفية والهجوم على القنصلية الأميركية ببنغازي.
وتتحدث "در شبيغل" عن إيفاد "الإخوان المسلمين" المصريين أئمة متطرفين إلى هذه المدينة لدعم "الإخوان المسلمين" الليبيين. وربما تجاوز دور الإسلاميين المصريين الوعظ، إذ لا يستبعد محققون أميركيون أن يكون الجهادي محمد جمال أبوأحمد الذي أوقف في محافظة الشرقية المصرية بتهمة الإرهاب، درَب مقاتلين ليبيين شاركوا في هجوم بنغازي.
 وتعتقد أجهزة استخبارات غربية أن "أنصار الشريعة" تقايض غنائمها من الصواريخ  الروسية المضادة للطائرات، بالتمويل من "القاعدة" التي أوفدت مدربين من باكستان لإقامة معسكرات. والمكان ليس سرياً، مدينة غات بجنوب غرب البلاد على الحدود مع النيجر. والأسبوع الماضي أغلقت ليبيا حدودها مع هذا البلد وتشاد والسودان والجزائر.
وكان قائد "أنصار الشريعة" محمد علي الزهاوي (44 سنة) صرح لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" بعد اقتحام القنصلية أن "الوقت ليس مناسباً  للتخلي عن سلاحنا لأننا في معركة مع الليبراليين والعلمانيين وبقايا (نظام العقيد معمر) القذافي. شباننا الشجعان سيواصلون القتال حتى فرض الشريعة".
وفي المقابل، يعتبر محمود جبريل الذي اضطلع بدور سياسي كبير في الثورة  توج بفوز انتخابي لم يُترجم بعودة إلى الحكم، أن "الشريعة، حين فُهمت بالطريقة الصحيحة، نجحت في إقامة إحدى أهم الحضارات في التاريخ البشري. المشكلة ليست في الشريعة أو الإسلام، بل في تفسير الشريعة".
وقال الصحافي عيسى عبدالقيوم لـ"النهار" إن "أم المعارك" تتعلق بالدستور، في الشكل والمضمون. فلم يحسم بعد إذا كانت اللجنة التي ستنصه مُعينةً من المؤتمر الوطني العام، أم منتخبة. ووضع الوثيقة سيمر بـ"مخاضات قد تكون أكثر حدة مما شهدته مصر، وهي مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها العنف"، خصوصاً دور الإسلام في التشريع، وإمكان اعتبار دستور عام 1951 إطاراً لمبادئ يُنطلق منها. لكن "الإخوان المسلمين" يرفضون ذلك، لأنه كان يفيد بأن دين الدولة الإسلام، و"السيادة لله، وهي بإرادته تعالى وديعة للأمة، والأمة مصدر السلطات". وذلك لا يلبي مطالب الإسلاميين الذين صار لهم مرجع هو الدستور المصري الجديد، وفيه أن "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكُلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السُنة والجماعة". ويسترعي الانتباه أن الأمل الذي خيم على ليبيا قبيل الانتخابات وبعدها، ولمسناه في زيارة لهذا البلد، تبدد أو يكاد. الكثير من الناشطين الذين شاركوا في الثورة يكتبون في مواقع التواصل الاجتماعي أن الإسلاميين هم "القذافيون الجدد"، وأن ما حدث انتفاضة لا ثورة، فالفساد بقي وانتهاكات حقوق الإنسان ازدادت.
والواقع أنه يكاد لا يمر يوم دون مهاجمة مسلحين مقرات أمنية في بنغازي وبني وليد ومصراتة. وليس مبالغة إذاً التخوف من انعكاس الوضع الأمني على المسار السياسي، لكن من الإجحاف الحديث عن دولة فاشلة. وإذا كان كثيرون يقارنون ليبيا بأفغانستان لناحية نمو الأصولية، فإن وجه الشبه الحقيقي هو بناء دولة من الصفر.

تونس:"لم يتغير شيء"
وبخلاف مصر وليبيا، لا تواجه تونس معضلة الشريعة والدستور، بعد قرار حركة "النهضة" الإسلامية الإبقاء على المادة الأولى من دستور عام 1959 التي تنص على أن الإسلام دين البلاد ولا تعتبر الشريعة أساساً للتشريع.
لكنها تشهد شللاً سياسياً واحتقاناً شعبياً وصعوداً لتيارات دينية متشددة. وأعادت احتجاجات  سليانة إلى الأذهان انتفاضة سيدي بوزيد عام 2010. أما هناك، وفي الذكرى الثانية للثورة، سمع الرئيس المنصف المرزوقي صرخة "ديغاج" (ارحل) التي دوت في وجه زين العابدين بن علي، مع أنه معارض معروف أطلقه النظام السابق من السجن بطلب من زعيم جنوب افريقيا نلسون مانديلا. وقال له رجل إن "محمد البوعزيزي أضرم النار في جسده لتحقيق عدالة اجتماعية. تتحدثون عن الحرية والديموقراطية، لكننا لا نستطيع أكل الحرية والديموقراطية. الناس تريد خبراً وعملاً". وهذه المطالب لسان حال الشباب الذين تصل البطالة في صفوفهم إلى 42 في المئة.
أما العملية السياسية فبطيئة، إن لم نقل متعثرة. المجلس الوطني التأسيسي تجاوز مهلة وضع الدستور. وسلطة "الترويكا" المنبثقة عنه التي تضم "النهضة" والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات،  تتنازعها الخلافات. والمرزوقي محدود الصلاحيات بعدما تمتع بن علي والحبيب بورقيبة بسلطات شبه ملكية، ورئيس المجلس  مصطفى بن جعفر متهم بمحاباة الحكومة و"النهضة". وهذه تسعى للتأثير على النظام التأسيسي للهيئة المستقلة للانتخابات، لضمان أن تبقيها صناديق الاقتراع في حزيران في سدة الحكم.
ويبدو أن المعارضة سلمت لواءها لرئيس الوزراء السابق الباجي قائد السبسي الذي قاد المرحلة الانتقالية وأسس أخيراً حزب "نداء تونس". وأظهرت استطلاعات للرأي أنه الشخصية الأولى التي يثق بها التونسيين، وهو معروف بمعاداة الإسلاميين. واتهم "النهضة" بأنها "الخطر الأكبر على البلاد" لاعتمادها "العنف والترويع"، في إشارة إلى "الرابطة الوطنية لحماية الثورة"، وهي جماعات مسلحة مرخصة يُعتقد أنها تابعة للحركة الإسلامية.
أضف أن في البلاد صعوداً سلفياً لا يمكن إنكاره. فإلى "أنصار الشريعة" المشابهة لنظيرتها الليبية في الفِكر والممارسات مثل تدمير الضرائح والسيطرة على مساجد وترويع المثقفين، صار لـ"القاعدة" موطىء قدم في ولاية القصرين على الحدود مع الجزائر. وقبل أيام أعلن وزير الداخلية التونسي علي العريض اكتشاف خلية إرهابية مسماة "كتائب عقبة بن نافع" تدرب أفرادها في ليبيا والجزائر على القتال وإعداد المتفجرات…

بين العلماني والديني
بين صرخة "ديغاج" للمرزوقي وطرد مرسي من صلاة الجمعة من أحد مساجد القاهرة، يمكن القول إن أنظمة "الربيع العربي" في مأزق، وكذلك الشعوب التي تخلصت من ديكتاتورية موصوفة بالعلمانية لتجد نفسها مهددة باستبداد جديد بعباءة دينية.
منذ بدء "الصحوة العربية" كما يسمي طارق رمضان "الربيع العربي"، يحذر هذا المفكر السويسري وحفيد مؤسس "الإخوان المسلمين" حسن البنا، من "استقطاب سطحي بين العلمانيين والإسلاميين"، باعتباره "أحد أكبر الأفخاخ في العالم العربي". فهو يعوق الإسلام السياسي من التعامل مع مسائل أساسية أبعد من هوية الدولة مثل الفساد والعدالة الاجتماعية والنظام الاقتصادي. ويؤكد أن قيام "ديموقراطيات سياسية من دون استقلال اقتصادي يمكن أن يكون، جيواستراتيجياً، بخطورة الديكتاتوريات التي أسقطها".
والمعادلة التي وضعها رمضان جديرة بالاهتمام، لكنها تغفل العامل الأمني المؤثر بِقدر الاقتصادي، والخطير مثل الاستقطاب الإسلامي-العلماني. ومن مصر إلى ليبيا وتونس، تتفاوت درجات التغيير. ويواجه الإسلام السياسي مطبات الحكم، وبعضها ثمرة أخطائه. فهل يتوقف لنقد ذاتي موضوعي حتى لا تؤول الفرصة التاريخية التي وفرها "الربيع العربي" إلى مصير التجارب السابقة لفوز أحزاب إسلامية عربية في الانتخابات والتي ألقت بالجزائر في أتون العنف وأغرقت قطاع غزة في الشلل؟

صحيفة  النهار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى