الرقة … مدينة الذاكرة !
الرقة … مدينة الذاكرة !
*ألم أنذركم أن الرمال الخشنة ستسدّ مجرى الوقت ؟!
مقدمة :
قبل ثلاث ، دعيت إلى مؤتمر الرواية السنوي الذي يقام باسم الكاتب الراحل، ابن الرقة السورية، عبد السلام العجيلي.
بعد ثلاث سنوات … الرقة، المدينة الفراتية التي أحبها هارون الرشيد، وبنى فيها قصراً … مدينة اليساريين والكتاب والمخبولين بالأحلام … أصبحت محتلة، مقسَّمة، منكوبة، مهاجرة خطرة قلقة، مجهولة المصير.
لا أعرف طريقة أخرى لتذكّر هذه المدينة الجميلة، بأهلها الذين افتقدوا، على وجه اليقين، كل شيء … سوى أن إلقاء، مرةً أخرى من على منصة الرقة ( المجازية الآن ) هذه الكلمة، راجياً المعذرة على طولها، وفوات أوانها …
إنها مجرد ذكرى من ذاكرة ستصاب بمثلها في نوبات حنين متكررة ، في محنة بلادنا … سورية :
بعد ثلاث سنوات قد يبدو مثل هذا الخطاب لا لزوم له. وخارج الوقت، واستحق علامة صفر، لخروجه ، كمتنزّه سلمي لا مبال، أمام طوفان … أقصد: خروجه عن الموضوع المدرسي هذه الأيام الحربية !
(( دعوتي إلى مؤتمر الرواية في مدينة الرقة، وباسم الدكتور العجيلي … الحكَّاء الجميل البعيد المدى )) … هي شرف لي وورطة في وقت واحد. فأنا مصنف كشاعر من جيل السبعينات ارتكب رواية وحيدة . كما أنني لا أستطيع ، مهما حاولت مستعيناً بقراءاتي لروايات كثيرة ، وبكتب وثقافات نقدية ( لم استمتع كثيراً بقراءتها ) … لا أستطيع أن أتكلم كثيراً وعميقاً عن هذا النوع الساحر المسلي، الثرثار، مانح المغفرات، وموزع المصائر، وهادم اللذات، ومؤرخ السعادة والشقاء … عن الرواية !
لكنني أستأذنكم بالحديث المختصر عن تجربتي المتواضعة في كتابة روايتي الأولى ” إلى الأبد ويوم … حديثاً عشوائياً مليئاً بالتردد وانعدام اليقين.
إذا كان الشعر، في أعمق حالاته، مؤلّفاً من مواد مؤلمة . فإن الرواية بدورها أيضاً مؤلفة من موادَّ مؤلمة مفتوحةً في إيلامها. فإذا انطوت قصيدة على فقدان، فالرواية تكون قد أنجزت لتوها وداعاً رناناً للعشرات. وإذا كان الشعر يؤشّر إلى / أو يقول قصة عن غرام مفاجئ، أو حب خائب، أو حلم متكرر … فإن الرواية تقول الجبَّ قصةً بتفاصيله ، وتروي، بصراً وبصيرة ، مصيرَ حلمٍ وحامليه وحالميه .
الرواية تأخذ بثأرنا من الواقع ، لأنها ، في أفضل نماذجها ، تدلّنا على الحياة كأننا لم نعشها ، وتأخذنا إلى متعة لا تشبه ما عشناه . وتفسّر لنا ما بدا أنه واضح طوال مزاحنا مع الوضوح ، ونحن نمشي على ضفة الواقع ، فلا نرى نهر الحياة الجاري كما رآه الروائي ، في جمال الجريان حيناً وجريمته حيناً آخر . ومصبه النهائي أولاً وأخيراً .
كنت أرغب دائماً طوال تأملاتي في كتابة الرواية . فلقد ازدحمت الذاكرة الاستعادية بالأحداث ، وبالتجارب ، وبالنهايات . فطالبتْ ، وربَّما ألحّتْ في مطالبتها الذاكرة الانفعاليةُ لتدوين الألم ، والأمل ، المحاولة ، والفشل ، لتدوين الطريق الذي سار فيه عدد من أصدقاء الندم ، قاطعين الأميال التي كتبت على أقدامهم … ذاهبين إلى مصائرهم !
في لغة الشعر نقول : ” في الثامنة والنصف من كل شغف يصبح قلبي في ثانية فوضى ” في الرواية سيرةٌ لهذه اللحظة فنقول : ” في الثامنة والنصف من يوم خريفي حدثت فوضى ” . في الإعلام يحاول الصحفي أن يحوّل القطط العادية إلى قطط سيامية !
وهكذا في لحظة ما ، في يوم ما اتخذت قراراً أن أكتب رواية أقدمها إلى جائزة دبي الثقافية . وكنت مفلساً ككل الكتاب في بلاد لا تقدم لهم إلا الوقائع المؤلمة ، والمصائر المؤلمة … لكي يكتبوا رواياتهم عن حياة ، في معظمها ، أقصرُ وأقلُّ من قصة قصيرة !
ترددت كثيراً ، وخصوصاً لم يكن لدي وقت ، ولم أتعود على ذلك النظام الصارم الذي أقرأ عنه ، أسلوب حياة لكتاب الرواية ، كأن أجلس يومياً لساعات كموظف عند الكتابة . وكانت على الحائط فوق رأسي قصاصةُ ورق ، علقتها هناك في أول ” يوم دوام عند الكتابة ” هذه القصاصة / المعيقة ، المعلقة / تقول جواباً عن سؤال من هو الشاعر الكبير ..؟ ” الشاعر الكبير هو من يجعلني صغيراً حين أكتب وكبيراً حين أقرأ ”
وأظنها قيمة معيارية تخص الروائي الكبير . كما كانت أيضاً هناك نصيحة تقول : ” فكّر … إذا كنت ستكتب أقل من تولستوي .
أحد الروائيين ، ولا أغبطهم ، إنهم مؤرخو بلادنا وحياتنا على نحو ما ، مما يعوض نقصان ابن خلدون ، في علم اجتماع الحياة ، ومما يعوض نقصان مؤرخي لحظتنا العابرة في مرور أزمنة السياسة ، والهزيمة ، والخراب .
وإنهم الروائيون ، إذ يغمسون أقلامهم بحبر الحياة يجلدون أنفسهم بأسئلة لا جواب لها ، ويجيبون عن أسئلة جوابها فيها . فلا أرى ، روائياً إلا بوصفه مؤرخاً للخسائر . ولأننا أبناء تاريخ مؤلم ، وأبناء عصر الجدران ، وفقه العفة الكاذبة … ستكون كتابتنا نضالاً ضد الصمت ، والعزلة ، وانعدام الحرية والأمل . ثم ، للأسف يأتي من يقول لك : هذا نصّ فضيحة لأنه يسرد خذلان السياسة للواقع أو أنه نص يمشي ، مرافقاً شاباً وشابة إلى باب غرفة النوم حيث يمارسان قبلة أكثر مما ينبغي للحرام أن يفعله .
في كل كتابة روائية أجد مأزقاً ما ، ولا بد في الرواية من مأزق من هاوية ما . من يتامى أمنيات ، ولاجئي أزمات … ولكنني أفكر : لماذا لدينا مشكلات من النوع البدائي ؟ كالعسر في الحب ، واليسر في الترهات ؟ كالمنع والقمع ومطاردة الكلمات ؟ لماذا لدينا في الرقابة ما ليس في البشرية كلها ؟ : ثلاث موافقات : الأولى قبل النشر ، والثانية بعده ، والثالثة للسماح بالتداول .
ثمة محظورات دائماً حتى في أكثر البلدان تمتعاً بالحرية . ولدينا محذورات ( بالذال ) يتجنبها الكاتب ، عندما يضع أمام عينيه ميزاناً فيه مقياس الخسائر التي لا جدوى من مديح الآخرين لها . حين يزخرفون ” القتل بكلمة شهداء
الرقة … مدينة الذاكرة !
إن هذا الموضوع المحظور من فئة المواضيع المكشوفة معرفياً . ولا جديد في الاجتهاد حولها . وأرى أن فكرة حرية التعبير ( وهي من فئة الفكر السياسي أولاً ) هي ما ينبغي أن تكون علماً وطنياً شخصياً للكاتب في تنفسه الجمالي ، وكتابته في أي حقل من حقول الإبداع .
إن الكاتب هو – أولاً – من يصون المناطق المحررة من ذاته ، ويدافع عنها. وليكن هناك منع ” منع تجول ” للكلام عن الممنوع والمحرم والمقدس . للكاتب أكثر دهاء ، وهو يمشي في حقول الألغام … فعينه على آخر معبر خطر يتهدد الحياة. وأنا على ثقة بأن ما تقتحمه الرواية العربية وتخترقة من المحظورات يدلنا على فكرة التدرج ، والتراكم ، والاستمرار حتى تجد الكتابة العربية نفسها ، ذات يوم تتذكر المشيخات المنقرضة ، وحراس الفضيلة العاطلين عن العمل ، والسلطات التي اعترفت بغباء سلوكها وهي تعاند عندما كنا نقول لها ك ” إن أخطاء الحرية أقل من خطايا الاستبداد ” .
إنني من المؤمنين بفكرة ” المحظور في الفن والكتابة هو ليس الدين والجنس والصراع الطبقي وحسب ، وإنما الرداءة ! وأرى أن الصرامة المعيارية في علم الموسيقى وسلالم الأنغام ، يجب أن تسبب العدوى لنا جميعاً .
وإذا كان المحظور موضوعاً مهماً ، فإنه لا ينسينا حقائق مجتمعات تنمو بصعوبة ، ومجتمعات على وشك الانقراض ، وثقافات تزداد فقراً … ” إن وفرة المعلومات تؤدي إلى ندرة الانتباه ” . فقبل المحظورات ثمة حقيقة بالغة الخفة ، وهي أن حصة المواطن العربي من قراءة المنشورات العربية سنوياً ربع صفحة ! وثمة أرقام أكثر إيلاماً .
إن الرواية يجب أن تُعنى أولاً بكسب أصدقاء ، ثم مؤمنين ، ثم مياومين . ولا أعتقد أن الاصطدام مع هذه الفئة قد يفيد أحداً … ” اصدمهم بجرعات جميلة ولا تصطدم بهم … ” قال صاحبي مضيفاً :
” إن فكرة الضمير ، لم تعرف جيداً ، والضمير كلمة سهلة الاستعمال . إن كاتباً أمضى حياته في المعرفة والبحث عن جماليات الكتابة . كاتب جرّب ، عاش ، رأى ، أصغى ، أبدعَ … لهو بالتأكيد اكبر من شرطي الرقابة ، فلا تكترث به يا صاحبي …
” هذا قطار … إصعدْ ”
ثم أوجد لي هذا الصديق حلّاً للمسألة :
” السمكة قبيحة من وجهة نظر المقلاة ،
وليس من وجهة نظر البحيرة ”