الروائي غانم عزيز يقدم رواية تسجيلية غير متكاملة في (سكان البيوت الأربعة)

 

يعتقد البعض ان كتابة رواية تسجيلية لا تتطلب الكثير من الجهد، فالأمكنة تلعب دورا في تحديد مسارات الرواية و السير الشخصية لبعض الافراد في المجتمع يشكل قاعدة مفيدة لتحليل البعد الزماني – المكاني في الممارسات الاجتماعية، ويميز (لوفيفر) ابعاد الثلاثة للمكان وهي (المجرب والمدرك والمتخيل).ان وجود اسماء لمحلات شعبية واماكن عاش فيها الروائي ، وحرص على الاستعانة بشخصيات من تلك الحارات، واشارة الى  بعض الاحداث ايضا حصلت فعلا، كل هذا لا يجعل من الرواية تعبر عن مفهوم (التجربة الموضوعية) ومدى تفاعلها مع (التجربة الذاتية)، فالفهم الصحيح  في فن الرواية كما عبر عنه (باختين) يكون دوما (تاريخي وشخصي).حتى يكون نتيجة هذا المزج والخلط (راوية تسجيلية) متكاملة.

رواية (سكان البيوت الأربعة)  للروائي “غانم عزيز” الصادرة من دار أمل الجديدة – دمشق ، والتي تقع في 111 صفحة وتحتوي 16 عنوان ،حاول الكاتب أن يقدم رواية تسجيلية – اجتماعية ، فهل حقق ما يريد في هذه الرواية؟  يقول “غانم عزيز” في المقدمة “كما كانت زقاق المدق، وحي الحسين، والسكرية، وغيرها من الأماكن الشعبية والريف المصري الخلاق، إلهاما لكبار الأدباء المصريين، مثل نجيب محفوظ الذي إستوحى معظم رواياته وشخصياتها وأبطالها من تلك الأماكن، ولم أستطع مهما حاولت أن أبتعد في كتاباتي عن المناطق الشعبية التي عشت أو درست فيها، مثل النبي شيت ومحلة السجن وباب الجديد وآخرها وادي حجر…لا أستطيع الإستغناء عن الكتابة فيها..إن الغوص في أعماق الماضي لا بد أن يخرج بشيء يساوي مقدار الغوص المتعب في الأعماق”ص8

*نموذج نجيب محفوظ

طالما الكاتب ذكر بعض الحارات المصرية ونجيب محفوظ ، فإننا نود توضيح ان روايات محفوظ  صحيح انها تنتمي في الامكنة الى حارات  شعبية محددة لكنها تدل على عالم متنام متسع الاطراف، كما يحرص نجيب محفوظ على تضمين السرد الواقع السياسي ووجود حدث وطني كبير (أحتلال- مقاومة ونضال- استقلال – ثورة- أنقلاب – حرب- انتصار- هزيمة) والروائي المهتم بالجانب التسجيلي- الاجتماعي لا يمكن ان يتجاوز كل هذه الاطر ويكتفي بذكر اسماء وعناوين بعض الاماكن ويعدها هي اصل التوصيف!

البيوت الاربعة

ذكرني عنوان الرواية بمسرحية عراقية كوميدية شعبية  (بيت وخمس بيبان) وهي قريبة من ناحية موضوع الرواية ولكن بشكل تراجيدي ، خاصة ،موت  الام في بداية الرواية وزواج الاب”صائب” قريبته (رمزية) فقام بتقسيم البيت  الى بيتين ، القسم الاول (البيت الاول)  يسكن فيه اولاده (واثق- زينب- يمامة- ونامق) بينما يتم تأجير القسم الاخر(البيت الثاني)  لعائلة هاجرت من ارياف الموصل الى المدينة بسبب موت الاب وزاوج الام”مهدية”  وتتكون العائلة من (فواز – نجيمة- ردينة- وأكرم)، بينما يكون الباب الخارجي مشترك ! ويبدأ السرد عاديا بسيطا والسارد هو الابن (واثق)- رواية الصوت الواحد-  الذي يعلق على زواج ابيه بعد وفاة امه (أن تفقد أباك خير من أن تفقد أمك) وهو يماثل مقولة (اليتيم يتم الام وليس يتيم الاب) ولكن سرعان ما نجد العكس في عائلة الساكن الجديد ويطلق عليه السارد (البيت الثاني) حيث ان الاب مات والام (مهدية) حرمت اطفالها من الاموال وتزوجت شخص شاب أصغر منها (حمد)، وهو شخص سيء سنأتي على سلوكياته لاحقا ومصيره.

*المكان الغائب الحاضر

اذا كان يقصد الروائي بأهمية المكان كبناء تم الاشارة اليه بصورة سريعة ومن دون تأثير يذكر ، فهذا النوع  من التناول لا يشبه ما يفعله نجيب محفوظ او يوسف ادريس حينما يستعينان بالمكان كعنصر اساسي في الرواية، لنأخذ فقرة يظهر بها المكان في الرواية ، عندما يخرجان (واثق وفواز) ويصبح واثق دليلا سياحيا لفواز عن تلك الاماكن الشعبية”أخذت فواز الى منطقة باب الجديد الذي تبين أنه يعرفها جيدا .. شرحت لفواز مختصر عن المدينة وعن مركز سوقها الرئيسي المسمى باب الطوب واخبرته أن هناك شارعان رئيسيان في المدينة هما شارع نينوى والمسمى بالسرجخانة ومحلاته المنتشرة على جانبيه مخصصة لبيع حاجات النساء من الملابس والأحذية وغيرها من أحتياجات النساء ويكاد يكون أغلب رواده من النساء وكذلك يتميز هذا الشارع بوجود عيادات الأطباء…اما شارع الدواسة ورواده من الرجال .حيث تنتشر محلات بيع الملابس الرجالية.. ويتميز بوجود السينمات والمطاعم والمقاهي… ثم أستانفنا المسير من باب الجديد عبر منطقة الجمهورية التي توجد بها سينما الجمهورية ..”ص26 المكان الذي كان تجري به روايات محفوظ يمدنا بقدار هائل من التفاصيل السياسية والاجتماعية، وكان يستخدم الامكنة مسرحا لتطورات  الاحداث والشخصيات.

*الاحداث والشخصيات

الرواية تتناول نهاية الخمسينات من القرن الماضي، ومدينة الموصل في تلك الفترة من المدن التي كان لها دور في تحديد النظام السياسي في العراق، فهل تطرقت الرواية الى تلك الاحداث التاريخية المهمة.ام اكتفت ارواية في تعقب للشخصيات معز عن الوضع العام وتإثره؟

ذوبان الزمان

يمكن للمكان ان يلعب دورا في تحديد الزمان في الروايات، خاصة اذا ارتبط المكان بالاحداث المفصلية، فنقول هذا المبنى او تلك الحارة وهذا القصراو ذلك الاثر كان في زمن مثلا الدولة العباسية او العصملية او في زمن الاحتلال البريطاني والنظام الملكي، وكذلك الامكنة التي فيها نشاط اقتصادي يشير الى حقبة زمنية معينة مثل (الاسواق).رواية (سكان البيوت الاربعة) حينما اهملت التركيز المناسب للمكان كما اوضحنا، تناست ولم تذكر لنا الزمان والاحداث العامة المؤثرة في ذلك الزمن ، لنرى المقطع الوحيد الذي يذكر فيه الزمان ، وهو في حديث نجيمة الى واثق حول عمل حمد زوج امها “بعد أن توقف عمله بنقل البضائع من الموصل الى حلب، والى بيروت والى الموانئ السورية واللبنانية وبالعكس نتيجة لتوتر العلاقات بين الجمهورية العراقية والجمهورية العربية المتحدة التي تمثل سوريا ومصر”ص46 يستنتج القارئ ان احداث الرواية تجري في نهاية الخمسينيات، ولم يتم الاشارة الى اي تاريخ صريح في الرواية وكذلك اهملت احداث مدوية مثل حركة القوميون سنة 1959 ضد نظام عبد الكريم قاسم، قد يقول الروائي بإنه لا ينوي كتابة رواية سياسية حتى يتطرق الى تلك الاحداث! لكننا نؤخذ عليه بإنه ذكر في بداية الرواية بإنه رواياته تشبه روايات نجيب محفوظ التسجيلية – الاجتماعية!

*احداث الرواية

يبدو احداث الرواية غير مؤثرة بالشخصيات، فموت الام لا يترك ذلك الفراغ الكبير في عائلة واثق، بل ان الخالة رمزية تسد الفراغ واكثر، وعلاقة الحب بين نجيمة وواثق تسير برتابة عدا بعض مشاهد الاثارة الخجولة”انا اقف في الباب وهي خلفي تزداد التصاق بي، كانت لحظات حرجة وسريعة وممتعة تخللها الخوف والرغبة”ص81 كما ان ايقاع الرواية سريع جدا ، ففي  البيت الثالث الذي  يؤجر الى (خولة وحسن) هو يشتغل في محل لغسل وتشحيم السيارت ، لتموت بعد ذلك زوجته وهي تلد ويتزوج نجيمة وتنتهي علاقتها بواثق، البيت الرابع يؤجر الى رجل كردي من اهالي السليمانية معه زوجته وابنته ، وسبب انتقاله من السليمانية الى الموصل لقتله أحد الاشخاص على اثر مشاجرة واعتبرت دفاع عن شرفه، وخرج من السجن وانتقل الى  الموصل، الحاج صابر كأن متعود  ان يتحرش الرجال بزوجته فقد حاول (حمد) زوج مهدية ام نجيمة التحرش بها وحاول ضربه بالسكين، لذلك عندما تعثر عى جثة حمد مطعونة بالسكين عدة مرت وهو سكير فقد اتهم بهذه الجريمة رغم ان نجيمة بنت  زوجته  هي التي قتلت حمد لأنه حاول اغتصابها، أحداث متسارعة ولا تترك اثرا، الاب يذهب للحج ويمرض ويموت، زوجته تلد مولود جديد، واثق يتخرج ويعمل في الاحصاء والفتيات يتزوجن!

*محدودية المكان

معظم احداث الرواية يجري الحديث عنها في داخل البيوت الاربعة، و الرواية خالية حتى من الصراعات العاطفية، فنرى واثق يخسر حبه بزواج نجيمة من حسن من دون ان يكون له رد فعل يتناسب وحجم الخسارة، وتتداول الاخبار على لسان واثق وكأنها معلومات ينقلها الى القارئ من دون اثارة او حماس او مشاعر” لم يسعدني خبر زواج نجيمة وحسن لأني أحسست أني سأفقد علاقتي مع نجيمة مع أنني كنت أحسبها علاقة عابرة أفرزتها الحوادث، الا انها كانت متنفسا لي وربما أكثر من ذلك، وربما لها ايضا”ص82، ولم يوظف الروائي بعض الاعمال التي تمتهن من الشخصيات ويمكن ان يتطور السرد فيها مثل عمل الاب (صائب) بالعقارات او عمل واثق في الاحصاء وحتى سفره الى بغداد  لغرض التعيين لم يستغل لصالح الرواية”عند مروري بشارع النضال قال السائق: هنا في هذا الشارع المسمى ب52 تنتشر بنات الهوى بعد المساء على ارصفة، ترى الشباب بسيارتهم بين حين وآخر، يحملون واحدة أو إثنتان وآخرين ينزلون واحدة أو إثنتان. قلت للسائق: وماذا عن الشرطة؟ قال: لا دخل للشرطة بالموضوع طالما لا تكن هناك صرخات إستنجاد أو ضبط بالجرم المشهود”ص70 وكان عمل السمح الميداني هي الاخرى فرصة لبيان الريف في نواحي موصل وقراها وصعوبات الحياة لكن الروائي ركز على شيء آخر”نال مني الجوع وهدني التعب القاتل من كثرة سيري على قدمي، رأيت إحدى السيدات تخبز على نار الصاج خبزا لا تقاوم رائحته، فلم أتمالك نفسي أن طلبت منها متعففا ومتظاهرا بأني أريد أن أتذوق طعم خبز الصاج المشهور في الريف … قامت السيدة من على موقع الخبز، وتقربت مني فتذكرت أني ربما أكون قد رأيت هذه المرأة من قبل..,أنها زوجة مصطفى وأم أحمد- احمد زوج ردينة سكان البيت الثاني اخت نجيمة-، رحبت بي أم احمد كثيرا بعد أن عرفتني، ثم نادت على أحمد أن يأتي ليأخذني الى داخل البيت..رحبت بي ردينة ترحيبا حارا”ص91

الخاتمة

تحس بإن الروائي قد حبس نفسه بالنص، ولم يجد روابط قوية بين الشخصيات والاشياء والاماكن، فجاءت الرواية باهته لا يوجد فيها تفاعل بين ما هو تاريخي واجتماعي في تطورات الاحداث، وبذلك فقدت ميزتها بالتشويق والجاذبية التي تحققها الروايات التسجيلية الاجتماعية.

صحيفة راي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى